Menu
in

الأوروبيون وعبث التوازنات الدولية في الأزمة الليبية

كثيراً ما يتمّ النقاش التطورّات في الأزمة الليبية بمعزلٍ عن القضايا الإقليمية في المنطقة، ولعلّ هذا النقاش المعزول يؤدي إلى حالة من الغموض وعدم الفهم لمواقف وتوجهات كثير من الدول المعنية بليبيا، ومدى جديّة مساعيها لحلّ هذه الأزمة.

ورغم البعد النسبي جغرافياً لليبيا عن مركز التوتّر في منطقة الشرق الأوسط إذا ما قورنت بسوريا واليمن، فإنّ الحالة المنفلِتة للتدخّل الدولي في أزمتها، ووجودِها في سياق التجاذب والتنازع بين المشاريع الإقليمية في المنطقة، يحتّم على المهتمّين بهذه الأزمة تقييم مواقف الدول المعنيّة بها من خلال النسق العام لحالة التوتّر والصراع في المنطقة.

يتفّق الجميع أن الحرب التي شنّتها مليشيات خليفة حفتر على العاصمة طرابلس أدّت إلى انكماش العملية السياسية، ورفعت من وتيرة التدخل الخارجي المكشوف الذي أسفر عن لاعبين جديدين لم يكونا حاضرين بشكل رئيسي ومؤثر في الملف الليبي هما: روسيا التي دخلت بثقلها داعمةً لمليشيات خليفة حفتر عن طريق قوة غير رسمية (مرتزقة فاغنر)، وتركيا التي لجأت إليها حكومة الوفاق بعد اليأس من الأوروبيين في اتخاذ أي موقف ملموس يعبّر عن جديّتهم في دعم شرعية حكومة الوفاق، حيث وقّع المجلس الرئاسي مع الجانب التركي مذكرتي تفاهم إحداها تتعلق بترسيم الحدود البحرية وتحديد مناطق الصلاحية الاقتصادية، والأخرى تتيح لتركيا تقديم الدعم العسكري لحكومة الوفاق، وسرعان ما أعاد الحضور التركي من خلال هاتين المذكرتين التوازن في القوى بعد أن كادت تميل الكفّة لصالح حفتر وميليشياته.

وقد مثّل تنامي كل من الدور الروسي والتركي حالة صدمة للسياسة الأوروبية التي كانت مشغولة بالخلاف الإيطالي الفرنسي حول الملف الليبي، وما كادت تستفيق من هذه الصدمة حتى تفاجأت بالجهود التركية الروسية المشتركة التي تُوّجت بلقاء موسكو، والذي أنتج حالة الهدنة الهشّة التي نشهدها حالياً، وهو أيضاً ما جعل ألمانيا تعلن سريعاً عن عقد مؤتمر برلين، محاوِلةً استعادة دفّة قيادة الملف الليبي لأوروبا، وساعيةً في توحيد سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه هذا الملف.

لم يخرج مؤتمر برلين بتوافق كبير ولم يأتِ بجديد فيما يخصّ الأزمة الليبية، وتعطّل قرار مجلس الأمن الذي يؤيّد مخرجاته ويضفي عليها الصبغة الإلزامية إلى ما يقرب الشهر، وصدر بعد ذلك مفتقِراً إلى آليّات يصعب تحقيقها ليكون في حيّز التنفيذ، ليعكس بذلك استمرار حالة الانقسام الكبير حول هذا الملف دولياً.

ولعلّ السؤال المهمّ هنا: لماذا هذا الصراع على ليبيا مع بعدها عن مركز التوتّر طويل الأمد في المنطقة؟

قد يجيب البعض بأن الأطماع الاقتصادية في ليبيا وموقعها الاستراتيجي جغرافياً يجعلها محلّ صراع بين هذه الدول، ولا شكّ أن هذا هو أحد العوامل، غير أنه ليس العامل الرئيسي، فالاقتصاد الليبي وقطاع النفط والطاقة فيه ليس بالضخامة التي تعكسها حالة الانقسام الكبيرة داخل المنظومة الدولية، كما أن قضايا الهجرة والأمن الأوروبي يتمّ التنسيق فيها مع السلطات القائمة حالياً بشكل جيد، سواء في غرب ليبيا أو شرقها.

لذلك فالأرجح أنّ العامل الرئيسي لهذا الانقسام الحادّ هو استخدام هذا الملف كورقة مساومة وعامل اتّزان في الصراعات الأخرى التي تعيشها المنطقة، إضافة إلى طبيعة التحالفات التي تفرضها المشاريع المتنافسة في هذه المنطقة.

فأوروبّا بقدر قلقها من الوجود العسكري الروسي في ليبيا التي تعتبرها بوابتها نحو نفوذها في العمق الأفريقي، فإنّها كذلك منزعجة من تنامي دور المارد التركي الذي لها مع إمبراطوريته العثمانية تاريخ لا تريد تكراره، ومن جانب آخر فقد مثلّت الاتفاقية البحرية للأتراك مع حكومة الوفاق كسراً لحالة الحصار غير الرسمي لهم في شرق المتوسط، والنجاة من محاولة خنقهم في حدود بحرية ضيقة لا تناسب اقتصادهم المتنامي، وهو ما يجعل الأتراك ملزمين بدعم حكومة الوفاق التي يعني سقوطها ونجاح مشروع حفتر الاستبدادي عودة تركيا لحالة الاختناق في شرق المتوسّط وعزلها عن محيطها الإقليمي.

لذلك فإن العملية البحرية التي سيطلقها الاتحاد الأوروبي لتطبيق حظر توريد الأسلحة إلى ليبيا هدفها حصار حكومة الوفاق وقطع الدعم عنها من الجانب التركي، إذ إن هذه العملية لن تستهدف تدفق السلاح إلى حفتر من الحدود البرية مع مصر، أو عبر الجسور الجوية القادمة من أبوظبي، إضافة إلى ذلك فإن عدم الجديّة في حلّ أزمة إغلاق المنشآت النفطية وتمكين حفتر من هذه الورقة هو معاقبة للمجلس الرئاسي الذي تقارب مع الأتراك بشكل مزعج ومستفزّ للأوروبيين.

أما فيما يخصّ حالة التفاهم التركي الروسي حول الملف الليبي فقد سعى الأوروبيون إلى إقحام واشنطن في ذلك عبر دعوة وزير الخارجية الإيطالي واشنطن قبل مؤتمر برلين إلى التواصل المباشر مع موسكو فيما يخص الأزمة الليبية؛ وذلك لسحب البساط من تحت أنقرة التي يبدو أن الولايات المتحدة مطمئنة إلى ما تقوم به في هذا الصدد، وبما أن هذه الدعوة لم تجد آذاناً صاغية لدى واشنطن فقد دعت فرنسا في المنتدى الأمني بميونخ إلى زيادة التنسيق مع روسيا فيما يتعلق بالأمن الأوروبي، والظاهر أن هذا التوجه بدأ يطبق بسرعة، حيث زار وزير الخارجية الروسي إيطاليا وكان الملف الليبي حاضراً وأول ما تمّ نقاشه هو العملية البحرية في المتوسط المتعلقة بحظر توريد الأسلحة.

وفي هذا السياق لا يمكن هنا إغفال الإشارة إلى السبب وراء تعنّت فرنسا وإصرارها على دعم خليفة حفتر والسعي لإنجاح مشروعه الاستبدادي، فعقود التسليح الضخمة والتعاون العسكري الهائل الذي تحظى به فرنسا من الإمارات والسعودية أكبر داعمي حفتر ومن ورائهما مصر، يجعلها تنساق ضمن التوجّه الذي يرضي زبائن أسلحتها ولا يتعارض مع مصالحها ونفوذها في الوسط الأفريقي، ويمكن القول: إن هذا السبب نفسه هو ما يجعل الإدارة الأمريكية غير مهتمة بشكل كبير بالملف الليبي ولا يمثل أولوية في سياستها الخارجية، وكأنها تريد إتاحة مساحة من اللعب في ليبيا لشركائها في مشروع التطبيع مع إسرائيل ومسوّقي صفقة القرن مادام أنه يخدم وجهة النظر العامة للسياسة الأمريكية في المنطقة.

هذه محاولة لتفكيك الخيوط المتاشبكة للمواقف الدولية تجاه ليبيا، وهي تعكس مدى تعقيد هذا الوضع وصعوبة قراءته وفهمه في ظل تطورات سريعة ومتلاحقة، وهو ما يؤكد أن دور المجلس الرئاسي على المستوى الدبلوماسي محدود نوعاً ما، كما أنه يستوجب عليه تقوية نفسه داخلياً من خلال إصلاحات صارمة وجادة، إضافة إلى تمتين تحالفه مع داعمه وحليفه التركي، وإبقاء أبوابه مفتوحةً مع مختلف الأطراف دون التفريط بثوابته التي أعلن عنها منذ 4/4

أُترك رد

كُتب بواسطة raed_admin

Exit mobile version