لو كان الاستحمار علم يدرس لاستحوذت الجامعات العربية على أعلى التصنيفات العالمية ولاحتفظت بالتربع على رأس القائمة طوال قرن من الزمان.
في عام67 من القرن الماضي وأثناء وبعد الهزيمة كان راديو والتلفزيون المصري يبث بلا ملل أخبار توالي الانتصارات التاريخية التي يسطرها الجيش المصري والسوري على الكيان الصهيوني، بينما في الحقيقة كل الجيوش العربية منيت بهزيمة نكراء في أرض المعركة؛ نتيجة الفساد السياسي وغياب الإرادة لدى الجنرالات التي تحكم الدول العربية آنذاك.
ومنذ ذلك الوقت بدأت نظرية واستراتيجية الاستحمارلوجيا بالتشكل وبدأت في ترسيخ القبول بهرمية استبدادية تقوم فلسفتها على تقديس الحاكم إلى جانب تقبل الهزيمة النفسية والمعنوية والتشكيك في القضايا الوطنية لدى الشعوب وإظهار الأنظمة العربية نفسها كضحية الإمبريالية وأنها تقاوم مؤامرات كونية تسعى للقضاء على القومية والمكتسبات والثوابت الوطنية والدينية وتحاول إعادة الاستعمار.
وللأسف الشديد استطاعت تلك الأنظمة خداع الشعوب وتنويمها في وحل التخلف الفكري والحضاري لنصف قرن من الزمان، وتحكمت فيها بواسطة استراتيجية الاستحمار والاستحقار، والأغلال لمن يفكر في النظر إلى ما وراء القضبان.
وكان لتلك الحقبة أثرها البالغ على فقدان المجتمعات العربية الوجهة وضياع بوصلة تقدمها، وكانت من أكثر عوامل الفشل والتخلف المجتمعي والحضاري وتأخر النهضة أسوة بالشعوب الأخرى التي فتحت العنان للإبداع والابتكار وصناعة التاريخ.
والآن وبعد ثورات الربيع العربي وبعد نحو قرابة قرن لا يزال جنرالات الكلاسيكية العربية يحلمون بإعادة تدوير البؤس والتربع على إرادة الشعوب من جديد وكانت محاولاتهم جدية وقوية وللأسف استطاعت تثبيت قواعد انطلاق متينة عبر لعب أدوار جديدة ومتقدمة في خدمة الأسياد بما في ذلك السباق لتقديم القربان، ففي مصر السيسي الذي أوصله الاستحمارلوجيا للسلطة ولا يزال إعلامه يمارس أقصى قدر ممكن من التضليل والكذب واللامنطق حيث لا يجد حرجا ولا حياء من أن يقدم السيسي للشعب المصري كمنقذ، بل وهدية من السماء له رغم ما وصلت إليه مصر في عهده من أزمات اقتصادية لا تطاق .
أما في السودان فقد وثب على زمام أمره ومستقبله جنرال من الطراز نفسه ويبدو أنه غير محترف وليس لديه حتى أساسيات فن الاستحمار حيث قفز سريعا ودون مقدمات ولا تدرج إلى أحضان الأسياد لتثبيته كخليفة مطيع بعد البشير المنقلب عليه هو وإرادة الشعب السوداني الشقيق
وعندما سئل الجنرال عبدالفتاح البرهان عن أسباب لقائه نتنياهو قال، إنه قام بالاستخارة قبل اللقاء، ورأى أنه لا مانع منه وأن لقاءه يحقق مصلحة السودان العليا.
ثم يأتي دور حفتر صاحب هزيمة القرن في وادي الدوم والابن المدلل لابن زايد الذي يتولى الإشراف على قتل أطفال ليبيا عبر آلة الموت المقدمة بسخاء من أبوظبي، ورفيق درب السيسي في الثورة المضادة وشريكه الموثوق في وأد الثورات، والمشروع الجاهز للمنطقة بالنسبة للإليزيه، كما أنه الحارس المستقبلي لمصالح الدب الروسي في المياه الدافئة بالمتوسط.
ولعل سائلا يقول لماذا كل هذا الاهتمام المبالغ فيه من أجل إيصال رجل بلغ من العمر عتيا،؟ الجواب المنطقي هو أن كل هذا الدعم الذي تقدمه الإمارات لحفتر والذي لم يتوقف حتى في أيام الهدنة ومؤتمر برلين الذي تعهدت الإمارات بالالتزام بمخرجاته إنما هو لإيصاله كرسي الحكم.
إن الإمارات إلى جانب فقدان سمعتها دوليا جراء دعم حفتر وفق تقارير لجنة الخبراء بالأمم المتحدة فإنها فقدت كذلك مليارات الدوارات والأسلحة والمسيرات، بل بدأت تخسر مشروعها في تثبيت نظام عسكري تجعله واجهة لوضع يدها على موانئ النفط والغاز والثروات المعدنية في ليبيا.