ألقت تركيا بحجرها الثقيل في مياه التسوية السياسية الراكدة فانداحت دوائر الحراك الإقليمي والدولي في اتجاهات عدة، وتسارعت عواصم مهمة لاحتواء التصعيد الجديد. فقد استفاقت إيطاليا من سبات عميق، ونشطت الدبلوماسية الألمانية لإعادة الثقة في مؤتمر برلين بعد أن بدا أنه فشل قبل أن ينعقد.
وتقاطعت طائرات الوفود من العاصمة طرابلس والقاهرة والجزائر وبروكسل وموسكو وواشنطن، في حراك سريع؛ منعا لتطور الأوضاع بشكل يخرج الحالة الليبية عن السيطرة الأوروبية، ويكسب أنقرة وموسكو النفوذ الأكبر في تسوية الأزمة.
السياسة التركية بدت أكثر تماسكا حيال التطورات الأخيرة في الأزمة الليبية، فقد جاءت كردة فعل على الدعم المتنوع والمتراكم لحفتر منذ سنوات تورطت فيه عواصم عربية وغربية. وكانت مقاربة أنقرة للأزمة محرجة للأطراف الداعمة، ومحرجة أيضا للعواصم التي وقفت متفرجة أمام اختطاف الملف الليبي من قبل المنحازين لحفتر، ومنها برلين وروما ولندن وحتى واشنطن.
السياسة التركية واجهت القوة بالقوة، ومكن الدعم التركي حكومة الوفاق وقواتها من الصمود أمام الطيران الأجنبي، والمرتزقة المدربين والمدافع الحديثة. ويبدو أنه في جعبة الأتراك أكثر مما وصل لمحاور القتال، فصار السعي لوقف إطلاق النار والعودة إلى طاولة المفاوضات جديا، بعد أن ظل شعارات منذ الأسبوع الأول من الحرب.
الجميع تحفظوا على السياسة التركية “العنيفة”، ليس فقط الداعمون لحفتر في عدوانه، بل حتى الذين يضعون أنفسهم في خانة حكومة الوفاق، ويقلقهم كثيرا التدخل المصري والإماراتي السلبي. والسبب مفهوم، وهو أن تركيا قادرة على ردع العدوان عسكريا، وتوظيف تقاطعات مصالحها المهمة مع الروس والأمريكان لتوجيه الأحداث بعيدا عن خزينة مكاسب حفتر، ومن ثم تعزيز نفوذها في ليبيا.
الإعلان عن وقف إطلاق النار من الجانبين الروسي والتركي تلقفته برلين وصاغت على أساسه رؤية لإحياء المسار السياسي، والتقط رأس خيطه المبعوث الأممي ووجه رسائله لأطراف النزاع؛ البرلمان بطبرق، والمجلس الأعلى للدولة، حاثا إياهما على الاجتماع للبحث في المسار السياسي.
روما أرادت أن تعوض غيابها المثير للشك عن الأزمة الليبية بعد 4 نيسان/ أبريل الماضي بالقفز على الجميع والجمع بين السراج وحفتر، وكان حفتر سباقا لتلبية الدعوة، إلا أن رفض السراج للاجتماع بداية أفشل المناورة الإيطالية، وثبّت لبرلين المبادرة لاحتضان التفاوض المرتقب.
أعلن حفتر وقف إطلاق النار استجابة للإعلان الروسي والتركي بالخصوص، وبرغم أن الموقف الجديد لا يلبي شروط الوفاق بعودة المعتدين إلى مواقعهم قبل وقف الاقتتال، إلا أنه يمثل ضربة لمشروع اجتياح العاصمة والأيمان المغلظة لحفتر وقادته العسكريين وأنصاره السياسيين بأنهم لن يوفروا رصاصة حتى يدخلوا طرابلس.
أنقرة التي حثت موسكو للضغط على حفتر للاستجابة للإعلان، يهمها أن تنجح في فرض مقاربة دولية متوازنة لحل الأزمة الليبية، لهذا تحرص على استمرار دعمها العسكري للوفاق وتوظيفه للضغط باتجاه الحل السياسي المتوازن.
قوة الموقف التركي ليس فقط في الذراع العسكرية، بل في حسن تعاملها مع تقاطعات المصالح مع أهم طرفين دوليين في الأزمة الليبية، وهما الولايات المتحدة وروسيا. ولأن كلا منهما يحرص على أن يكسب تركيا في معسكره في ظل الاصطفاف الدولي الراهن، لهذا لم تعلن واشنطن رفضها للسياسة التركية تجاه ليبيا، خاصة الاتفاق الأمني والعسكري. وينبئ الإعلان المشترك لوقف إطلاق النار عن حرص موسكو على عدم مصادمة أنقرة في الساحة الليبية.
برغم كل ما تم عرضه، فإنه من المبكر الحكم بأن الأزمة الليبية قد شارفت عن الانتهاء، فأمام المحافظة على وقف إطلاق النار تحديات أهمها عدم رضا الجانبين عن نتائج القتال، بمعنى عدم رضا كل منهما عن تموقع الآخر عسكريا.
أيضا لا تزال أجندة التفاوض غير واضحة، والخلاف الشديد يمكن أن يجعل من التراضي على التفاصيل أمرا متعذرا في المدى القصير. والنتيجة المرضية مرتهنة بما اتفق عليه الروس والأتراك وأقره الأمريكان.
والمهم أن يتوقف العدوان ويرجع المعتدون إلى مواقعهم، فالحرب شر، وشرها مستطير ودمارها يعدي الإنسان والعمران، والمطلوب صلابة سياسية كصمود الجبهة العسكرية لإرغام حفتر على الرضوخ لتسوية عادلة تستجيب للتضحيات الكبيرة التي بذلت لصد العدوان.
الكاتب : السونسي بسيكري
المصدر : موقع عربي 21