سمعت بـ”أبوزيد دوردة” من خلال تقلده لعدة مناصب عليا مختلفة المهام في حقبة النظام السابق، فكان من أبرز أركانه التي سقطت مع سقوطه في أواخر العام 2011 حينما قُبض عليه كأحد رجالات الفاتح، وتكرّر الاسم كثيرا بعد أن تعالت كثير من الأصوات تنادي بالإفراج عنه؛ علّتهم في ذلك “براءة الرجل” و”حكمته”، وبعضهم ضمّه إلى “القلائل” ممّن حاولوا درء الفساد داخل النظام، وأن وجوده لهذا السبب وليس لشيء آخر
أفرج عنه صحيّا في فبراير من العام الماضي ولاقى هذا الإفراج استحساناً من المتابعين، حتى إن بعض من عارضوا هذا الإفراج اتهموا بـ”الثورية المفرطة”، وأن “بوزيد” يستحق هذا الإفراج قبل هذا الموعد كونه “بريئا وحكيما”.
أُعلن عن كلمةٍ سيلقيها في أحد القنوات في بداية هذا الشهر، ترقبتُ الكلمة بقدر كبير من حسن الظن، متلمّسا “الحكمة” التي تحدث عنها الكثيرون، وعكفتُ أكثر من ساعة ونصف أسمع الكلمة المتلفزة، وحملت نفسي على صبر منقطع النظير ما أظنني قادر على تحمّله لولا الرغبة الشديدة في العثور على الجوهرة المفقودة “حكمة أبوزيد دوردة”.
لكنّي -باختصار- لم أجد في الكلمة إلا مزيجا من التهريج والغطرسة الفارغة التي بُنيت على أفكار نظام نجس، ساد الليبيين فترة من الزمن ثم باد واقتُلع، ولم تبق منه إلا بذور سامّة يحاول هذا الأبله خلق بيئة جديدة لها بوقاحة بالغة، وبتزييف وخلط للوقائع لا تحتاج لحصافة كبيرة أو ذكاء خارق لكشفها.
ربما يرد البعض أن هذا ينساق ضمن وجهات النظر التي يتفق معها المرء أو يختلف، لكن ما قاله “دوردة” لا يرتقي لأن يكون وجهة نظر حتى، لأنه يفتقد لأبسط معايير وقواعد الموضوعية والمنطق، ولا ينبئ إلا عن ركام من أمراض نفسية ناتجة عن تيه أربعين سنة، وسجن سبع سنوات.
هذا في العموم، وعند التدقيق في أجزاء الكلمة تجد العجب العجاب الذي من الممكن أن نتحدث عن أبرزه في النقاط الآتية:
• لازال يفترض جازمًا أن ما حدث من ثورة لليبيين على النظام المجرم في 2011 هو مؤامرة دولية لتدمير ليبيا، ونسج لذلك قصصا ربما تكون من وحي الخيال تدعم تلك الفرضية، وكأن ليبيا كانت عامرة معمّرة، وكأن العالم يحسد الليبيين على الجنان الغنّاء التي يعيشون فيها، قال ذلك بعد ترحّمه على سيده المقبور، مثنيًا على تحمله له طيلة فترة استعباده !.
• وبنفس الطريقة والأسلوب، نسج قصصا أخرى عن أصول فائز السراج التركية، وأن أباه ألف كتابا يؤكد فيه ذلك، حيث ذكر في الكتاب أن لقب العائلة هو “آغا” وليس السراج، ليربط “آغا” بـ”باشاغا”، في استغباء لعقول الليبيين معتقدا أن “الجماهيرية” أو “الليبية” هي منفذهم الإعلامي الوحيد على العالم، الرجل يعيش خارج الزمان والمكان.
• يصف حكومة الوفاق الوطني بالحكومة “غير الشرعية”، وهو سليل مدرسة الانقلابات العسكرية التي تقوم على نسف أي شرعية، وتستمر بالقمع والقتل، وتقتات من أموال الشعوب، والأنكى من ذلك أنه يطالب “جديا” ثلة البرلمانيين القابعين في طبرق بضرورة حلّ هذه الحكومة، لا يدري أن هناك حكومة موازية يتعامل معها هؤلاء هي حكومة الثني، ولا يعترفون أصلا بحكومة السراج التي يطالبهم بحلّها، مرة أخرى .. ليثبتَ أنه غير مدرِك لواقع الأمور.
• ناقض “دوردة” نفسه بعد هجومه على ثورة فبراير بدعوى “المؤامرة الدولية” وخصوصا فرنسا و”ساركوزي”، لكنه وبعد هذا الهجوم طالب الليبيين بدعم ميليشيات حفتر التي أطلق عليها اسم “جيش”، متناسيا أن فرنسا هي الحليف الأبرز لحفتر وأن جنودها قاتلوا معه وماتوا على الأرض، فضلا عن قوافل السلاح والعتاد الذي ترسله إلى هذا المجرم.
• قد نتوقع أن يشتم دوردة علم الاستقلال؛ لأنه الراية التي أنهت حكمهم وتسلطهم، وقد نتوقع أيضا مطالبته برجوع العلم الأخضر لأنه يرمز لفترة هذا الحكم، لكن الصدمة هو أن يطالب بعلم مؤقت أبيض تتوسطه صورة لشيخ الشهداء عمر المختار، لا يوجد علم في أي دولة من دول العالم يتضمن صورا لأشخاص أحياء أو أمواتا، ولكن عقل الرجل السبعيني جعله لا يفرّق بين العلم والعُملة، غير أنّ الجيد هو اقتناع الرجل بضرورة وجود دستور يحكم البلاد بعد أن كان الكتاب الأخضر والنظرية العالمية الثالثة هي مرجعيته الوحيدة !.
أخيرًا .. أدعو القارئ الكريم لصرف النظر عن كل هذه النقاط المذكورة أعلاه، وتأمل ما قال في كلمته ومقارنتها بعمل الرجل طيلة وجوده في أعلى مناصب الدولة: السكك الحديدية، الإسكان والمرافق، الاقتصاد، الزراعة، الإعلام، محافظ مصراتة، محافظ غريان، والأمن الخارجي، وبعثة ليبيا في الأمم المتحدة، ولو وجد في كل هذه القطاعات ما يجعل الرجل يتبجح ويتشدق مستاءً من المخاض الحالي الذي تمر به ليبيا نتيجة إرثهم، حينها يجدر بنا الاعتذار عن ثورة فبراير واعتبارها مؤامرة تدميرية.
لكن وللأسف، فالتدمير الذي قام به دوردة وأمثاله يجعل كل هذه المزايدات تبريرًا سخيفا لجريمة وطن استمرت أربعين سنة، وصدق الشاعر في قوله:
ومن العجائب والعجائب جمّةٌ أن يلهجَ الأعمى بعيب الأعورِ
المبروك الهريش