“إسقاط الدعوى لانقضاء مدة الخصومة” هو الحكم الذي نطقت به هيئة الدائرة التاسعة في محكمة استئناف طرابلس في قضية مذبحة سجن أبوسليم التي يُحاكم فيها المتهمين بهذه المجزرة البشعة التي أودت بحياة أكثر من 1200 سجين دون محاكمة أو حتى اتّهام رسمي، ومن بين المتّهمين أعتى رجال نظام القذّافي ويده التي يبطش بها “عبد الله السنوسي”.
أثار هذا الحكم حفيظة كثيرٍ من الليبيين وشعروا بخيبةِ أملٍ مَشُوبةٍ بامتعاضٍ وغضب، إذ كيف للمؤسسة القضائية التي ينبغي أن ترعى العدالة وتُنصِف المظلوم تحكُم بمثلِ هذا الحكمِ في جريمةٍ هي من أبشَع جرائم العصرِ، ومن أشنعِ ما اقترفت أيدي النظامِ الآثمة، ومع أنّ الحُكمَ لم يقع من نفوسِ الكثيرين موقعَ رجائها في إنصاف المظلومين والاقتصاص من الظالمين والطغاةِ، فإن كثيراً منهم أمسكَ عن القوْل أو التعقيب على هذا الحكمِ حتى لا يمسّ استقلال القضاءِ أو يطعن في نزاهته، مؤكداً على أنه لا تعقيب على أحكام القضاء إلا أمام هيئاته وبالتدرّج صعوداً في درجاته من ابتداءٍ ثم استئنافٍ ثم نقض أمام المحكمة العليا.
ولكيْ لا ننساق مع التيارَ خلفَ مُسلّماتٍ مغلوطةِ في الفهم، أعتقدُ أنّه من الواجب تصحيح بعض المفاهيم فيما يتعلّق باستقلالية القضاء، وموقعه من أركان السلطة الثلاثة (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، فالسلطة القضائية هي عمود التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وهي المعوّل عليها في كبح جماح أي منهما إذا ما أرادت أن تتغوّل على الأخرى أو على الوطن أو المواطن، لذلك كان لزاماً أن يكون لرجال القضاء الحصانة والامتيازات المادية والمعنوية التي تجعلهم خارج سطوة كلا السلطتين، وقادرين على صون العدالة وإعلاء الحق، وقد أصدر المؤتمر الوطني في هذا الخصوص تشريعاتٍ مهمةٍ وفّرت لرجال القضاء الكثير من هذه الامتيازات والاستقلالية، فهل أدّى رجال القضاء واجبهم ونهضوا بمسؤولياتهم؟
إن الجواب الصريح على هذا التساؤل لن يُعجب الكثير، وربما رآه البعضُ نيلاً من هيبةِ القضاء وطعناً في نزاهته، ولكنّ الحق ينبغي أن يقال، كرهه مَن كره وأحبّه مَن أحبّ، وعليه فإن التتبّع البسيط لأداء هرم السلطة القضائية المتمثّل في المجلِس الأعلى للقضاء سيجده أداءً هزيلاً مصبوغاً بالتقاعس عن الواجب والتهرّب من المسؤولية، يتحجّج القائمون عليه بتردّي الأوضاع الأمنية والنأي بالمؤسسة القضائية عن التجاذب والصراع السياسي حفاظاً عليها من الانقسام.
وقد يجد المُتلقّي في هذا التحجّج شيئاً من المنطق والموضوعية للوهلةِ الأولى، ولكن إذا تأمّله جيداً لن يجِد فيه إلا ركوناً إلى الدّعةِ والراحةِ، وتنصّلاً من المسؤولية وتبعتها، مع الاستمتاع بالامتيازات والرواتب الضخمة، وسيجد المتأمّل بعد ذلك أغلبَ هؤلاء قد شابهوا النوّاب الذين تمسّكوا بكراسيهم حرصاً على الامتيازات ولو أدى ذلك إلى ضياع الوطن.
ولكي لا يكون الكلام رمياً بسهام النقد دون حجّة، فإن المجلس الأعلى للقضاء قد اكتمل عدد أعضائه منذ مدة جاوزت الثلاثة أشهر، وإلى الآن لم يعيّن نائباً عامّاً، بل لازال المنصب شاغراً والمكلّف بالمهامّ لا يحرّك ساكناً، وأمر مكتب النائب العام في يد رئيس مكتب التحقيقات فيه كما يعلمُ الجميع، وقد استبشرنا خيراً بانعقادِ المجلس الأعلى للقضاء في مدينة طبرق، وأنّه أصدر قرارات تتعلق بحركة أعضاء الهيئات القضائية، والتي ظهر فيما بعد أنها ترقيات للاستفادة بأكبر قدر من الامتيازات لا غير، ولم يتطرّق الاجتماع إلى تعيين نائب عام يكون قادراً على مجابهة الفساد والظلم والجريمة التي استشرت في البلاد، وبات أصحابها لا يحسبون للقضاء والعدالة أدنى حساب.
إن إلجام المجرمين ومحاربة الظلم الفساد ليس مهمّةَ الأجهزة الأمنية فقط، بل هي مهمةُ السلطة القضائية أيضاً، ولو كان مكتب النائب العام يعمل بالشكل المطلوب، لكان وجّه الاتهامات إلى كثير من المجرمين ولاحقهم بمذكرات القبض والاستدعاء، مما كان سيقوّض نفوذهم ويمنعهم من التغول على مؤسسات الدولة، ولنا أن نتساءل ما موقف مكتب النائب العام من تقارير ديوان المحاسبة التي أظهرت فساداً مريعاً لدولة تُنتهك وتُستنزف؟ لذا فإن التحجّج بالوضع الأمني لا يمكن أن يكون مبرّراً لتعطيل السلطة القضائية؛ لأنها أحد أدوات إصلاح الوضع الأمني والرفع من مستواها، ثمّ إن هيبة القضاء تُفرض بعزيمة رجاله وثباتهم وغيرتهم على الحق ودفاعهم عن العدالة، وهذا ما نفتقده في رجال القضاء اليوم.
أعتقد أن إصلاح القضاء ينبغي أن يكون مطلباً شعبياً وقضية رأي عامٍّ يسعى فيه المجتمع بمختلف مكوّناته وفعالياته المدنية والسياسية، وأما التعميم بنزاهة القضاء، والتخويف من المساس باستقلاله فإنها ليست إلا شعاراتٍ من الوهم يحتمي بها القائمون على السلطة القضائية مطمئنين إلى تفريطهم في العدالة والحق اللذين اؤتمنوا عليهما، ومن يكن نهجه وسبيله تغييب سلطة القضاء وهدم ركنها من كيان الدولة، فلن يُستغربَ منه أن يحكمَ بمثلِ الحكم الصادر في قضية “سجن أبوسليم”، فالنزاهة والاستقلالية بعيدةٌ من هذا النهج والسلوك، وإنما هي إلى السلبية ومداهنة الباطل وخذلان الحق أقرب.