في عرف المستبدين منذ قديم الزمان كانت الكلمة الحرة كفيلة بأن تكلف صاحبها حياته، ويمكن لقصيدة لا تتجاوز ثلاثة أبيات أن تؤدي إلى حرب طاحنة تستمر لعقود إذا لم تعجب الحاكم بأمره.
وكان الشاعر يموت لمجرد ورود كلمة لا تعجب مولاه في قصيدة مدح طويلة، وقد قتل الحجاج الشاعر الأعشى المدني فقط؛ لأنه كان يمدح عبد الملك بن مروان.
فكم تبدو الأحداث مكررة، وما أشبه طغاة القرون الوسطى بجنرالات اليوم، ولماذا تقف عقلية المستبد في عالمنا عصية على التغيير ومتخلفة حتى عن ركب المستبدين الجدد من أمثال بوتين وبعض حكام أمريكا الجنوبية وآسيا الوسطى وأغلب حكام إفريقيا.
فالمستبد العربي لازال يستقوي بعدة عوامل عفى عنها التاريخ وتعود لعصر استغلال الإمبراطوريات للكنيسة؛ من أجل إطفاء الشرعية على تصرفات وقرارات الإمبراطور، كما أن المستبد العربي يتميز بامتلاكه شرعية دينية تعجل من رأيه نصا شرعيا مقدسا لا يقبل التعقيب عليه، بل يجوز له أن يستخدم القوة لفرضه.
فما حصل للسيدة سهام سرقيوة من ظلم ذوي القربى في منزلها الآمن، وداخل أرض خاضعة لسطوة ونفوذ الجنرال ليس غريبة في زمن المستبد فهو يتحكم في كل تفاصيل المجتمع كلماتهم آراءهم تصرفاتهم اختياراتهم، كل ذلك يخضع لمراقبة دقيقة من قبل أجهزة المستبد الجديد الطامح في وضع كعب رجله على أعناق جميع الليبيين وإعادتهم إلى حظيرة السمع والطاعة بأسس جديدة متينة تبقيه يتحكم هو وبنوه في شؤون الاستبداد أبد الآبدين.
كما أنها ليست وحدها من ذهبت ضحية أنياب جنرال مهوس بالسلطة ومقهور بتاريخ من الهزائم المنقطعة النظير في ميدان الرجال الصادقين في تلك البلاد الصابرة التي شبعت من القهر والقمع وممارسة العنف حتى صدرته إلى العاصمة طرابلس التي تبعد نحو ألف وأربع مائة كيلومتر عن الرجمة معقل الحاكم بأمره ومهد فتنة إراقة الدم الليبي الحرام.
لم ترتكب سهام أية جريمة ولا تسعى إلى ارتكابها في الغالب، فقط ذنبها الوحيد أنها عبرت عن تأييدها حقن شلال الدم الذي تسبب به حفتر، ولم تعرف أن التعبير عن الرأي جريمة لن تمر دون عقاب زمن المستبد وخطيئة يمكن أن تكلف أشهرا من الإخفاء القسري أو الموت ربما حيث لا يوجد ما يؤكد خلاف ذلك..
لم تشفع لسرقيوة صفتها ولا حصانتها البرلمانية فهي تمثل الليبيين في عرف الديمقراطية، ويفترض أن تقام احتجاجات شعبية من أجل معرفة مصيرة، لكن ليس ذلك متاحا أيضا فإن تلك المنطقة قطعت منذ سنوات صلتها بحرية الرأي والتعبير ورفع الصوت..
كيف لا وهي تضحية انتقال جنون القمع والسحل من جنرال آخر بالجوار تكاد تسمع صرخات المظلومين في سجونه، وقد قطع مبكرا علاقته بالتعددية السياسية، وأطاح بحلم مستقبل أكثر من تسعين مليون إنسان، وأعادهم إلى حظيرة التنافس في فنون التطبيل وكيفية قرع الطبول في بلاطه.
وغير بعيد عن ضجيج الجنرالات الكلاسيكية التي تقوم فلسفتها على إلغاء الآخر تماما، وفي بلاد تصف ببلاد التوحيد قتل صحافيٌ في قنصلية بلاده، بل وقطع بالمنشار، وأُخفي حتى دمه ليس لشيء إلا لأنه رفض أن يجادل فيما لا يؤمن به، وأن يسبح بحمد شاب لا يملك من الخبرة سوى قتل الأطفال، وتصدير الموت ولا يملك من الدبلوماسية سوى المال، ولا يعرف من الديمقراطية سوى الانحلال وتمكين السفهاء وسجن كبار المصلحين.
إن الظلم ليس أمرا جديدا، ومقارعته ليست جديدة أيضا، لكن التخلص منه يحتاج إلى حكمة وصبر وتقدير للمواقف واستراتيجية واضحة المعالم، يقول الكواكبي متحدثا عن كيفية مقاومة الاستبداد.
“وخلاصة البحث أنَّه يلزم أولاً تنبيه حسّ الأمَّة بآلام الاستبداد، ثمَّ يلزم حملها على البحث في القواعد الأساسية للسياسة المناسبة لها؛ بحيث يشغل ذلك أفكار كلِّ طبقاتها، والأولى أن يبقى ذلك تحت مخض العقول سنين، بل عشرات السنين حتى ينضج تماماً، وحتى يحصل ظهور التلهّف الحقيقي على نوال الحرية في الطبقات العليا، والتمنّي في الطبقات السفلى، والحذر كل الحذر من أن يشعر المستبد بالخطر، فيأخذ بالتحذُّر الشديد، والتنكيل بالمجاهدين، فيكثر الضجيج، فيزيغ المستبدُّ ويتكالب، فحينئذٍ إما أن تغتنم الفرصة دولة أخرى فتستولي على البلاد، وتجدِّد الأسر على العباد بقليلٍ من التعب، فتدخل الأمَّة في دورٍ آخر من الرقِّ المنحوس، وهذا نصيب أكثر الأمم الشرقية في القرون الأخيرة، وإمَّا أن يساعد الحظّ على عدم وجود طامع أجنبي، وتكون الأمَّة قد تأهَّلت للقيام بأن تحكم نفسها بنفسها”.
فالكواكبي هنا يتحدث عن أهمية تهيئة الظروف قبل الشروع في نزع المستبد أو مقاومته لكن إذا كانت الأمور ناتجة عن انفجار شعبي ليس له قيادة كما حصل في ثورات الربيع العربي ضد أنظمة الاستبداد فإنها بلا شك تختلف، وستأخذ وقتا طويلا؛ لتنتصر وتعيد الأمور إليها.
لكن في النهاية الثوارات المضادة فشلت فشلا ذريعا في إعادة الشعوب إلى مربع الخوف وهذا وحده يكفي؛ لأنه يعد مصدر قلق لا ينتهي لمعسكر الاستبداد، كما أنه أمل لا ينقطع بالنسبة للشعوب العربية حتى التي لا تزال تحت قيود المستبد وسطوته.