لم يعد تواجد المرتزقة الروس في جنوب طرابلس خبرا، بل بات مبتدأ مرفوعا، ولم يكن مقاتلو بركان الغضب يحتاجون لقراءة تقارير أممية تسبقها “إن”، أو تقارير صحفية مبنية للمعلوم، فهم يسمعون حديثهم بالآذان، ويرصدون تحركاتهم بالعيون.. ويتحسسون بأيديهم ما غنموا من عتادهم، ومقتنياتهم الشخصية وصور خليلاتهم، وحتى الروبل الروسي والليرة السورية، التي تركوها خلفهم قبل فرارهم ذات هجوم.. هل كانوا يظنون أنهم سيعيدون ما فعلوه في سوريا ذات غفلة؟!..
لقد كان الدفع بمرتزقة الروسي “يفغيني” لجبهات القتال مِن قبل مَن يديرون العدوان على العاصمة تطورا لافتا، فقد جاؤوا بهم بعد هزيمة مرتزقة السوداني “حميدتي”، وقتل وأسر وهروب المجنّدين المحليين، فكلما ألحقت قوات البركان الهزيمة بفريق، دُفع بآخر ليكمل مشوار الدمار والدماء.. ويتجرع من نخب الهزيمة..
استوعب حفتر متأخرا كعادته، وداعموه من خلفه -وأحيانا أمامه- أن الحسم لن يكون إلا على الأرض، وأن القصف من الجو -سواء أكان عشوائيا أو دقيقا- لن يحقق نصرا، وأن السيطرة على السحاب لا معنى لها دون وجود “رجال” على اليابسة، وهو ما فشلت فيه الميليشيات الليبية رغم حقنها بكل إبر العنصرية والجهل والتخلف، فكان الخيار بتأجير بنادق للقيام بالمهمة.. لكن هل فاته حقا أننا واجهنا نفس المرتزقة في 2011 وانتهى مصيرهم بين قتيل وأسير وفار؟
في العام 2011، حين فشلت كتائب القذافي الأمنية في تثبيت أركان سلطانه المتداعية تحت وطأة الانتفاضة الشعبية، لجأ للمرتزقة.
جاء القذافي أولا بالمدعو “خليل إبراهيم” زعيم حركة العدل والمساواة السودانية، وأسند إليه المهمة.. نزل “إبراهيم” بمجنديه في ليبيا، وعسكر بهم بمنطقة الأصابعة في خطوة أولى قبل الزج بهم في محاور القتال، فوصل جزء منهم لجبهة الدافنية بمصراتة، وكانت الجبهة منهارة.. فطُلب من “خليل” الدفع بقوات أكثر، فرفض بحجة أنه لن يدفع بجنوده في حرب خاسرة، وسحب قواته إلى طرابلس، ومنها هرب وعاد من حيث أتى، تاركا خلفه من وقع في الأسر، ليحكي لنا قصته وقصة رفاقه الذين تواجدوا بمقر شركة السكة الحديدية خلف جمعية الدعوة الإسلامية، بأمر من “اصليل مختار” و “محمد بشير سعد” وهي أسماء يعرفها أتباع القذافي جيدا.
بعد فشل “التجربة السودانية” أرسل القذافي في يونيو 2011 وفدا لروسيا مكونا من “عبد العاطي العبيدي. مصطفى الزايدي. جمعة إبراهيم” وكانت رسالة القذافي للروس صريحة: “إننا نطلب حمايتكم، ونحن على استعداد تام لإقامة قواعد جوية وبحرية وبرية روسية في الأماكن التي لازالت تحت سيطرتنا في ليبيا.. مع التلميح إلى قيمة الأموال التي تجنيها روسيا من ليبيا في صفقات السلاح والتي تبلغ وقتها ملياري دولار”.
وصل الوفد لروسيا، لكنه لم يرجع من هناك سوى بخفي فاغنر: شلة من المرتزقة الروس والأوكران والبيلاروس، قتل بعضهم في معارك تحرير مصراتة وطرابلس فيما قبض على آخرين وأودعوا السجن، وبدأت إجراءات محاكمتهم، قبل أن يعودوا إلى بلدانهم عام 2014 في صفقة لازالت غامضة حتى اليوم!
وإن كان من الإجحاف بحق “القذافي” مقارنته “بحفتر” إلا أن الأخير حاول نقل التجربة حرفيا، بداية بالانقلاب على السلطة إلى جلب المرتزقة من السودان وروسيا، وبينهما تجارب في محاكاة باب العزيزية في الرجمة، وتقمص أولاده لشخصيات أبناء القذافي، وجر القبائل لقراءة وثائق العهد والمبايعة، وتعليق صوره في الشوارع والمؤسسات الحكومية والقائمة تطول..، ولم يبق سوى تطابق النهايات ليكتمل المشهد.