قال الشيخ “محمد عبد الله جبعور” أحد أبرز معلمي ومشايخ مصراتة، إن التعليم الديني من ثوابتنا وهويتنا، مطالبًا بتوفير جميع السبل وتوظيف جميع الخبرات لإنجاحه، دون أن يتناسى تعرض التعليم الديني لمحاولات إلغاء خلال عهدين اثنين.
وفي مقابلة خاصة، أشاد الشيخ “جبعور” بدور أعلام مصراتة في الحفاظ على الهوية الإسلامية واللغة العربية والوسطية والتمذهب بمذهب الإمام مالك، مشدداً على أن الاختلاف منبوذ شرعاً.
شبكة الرائد الإعلامية زارت الشيخ “جبعور” بمنزله واستعرضت معه تاريخ التعليم الديني في ليبيا بوصفه أدار أبرز معاهده “القويري” لثلاثة عقود إلا عامين اثنين، فإلى نص المقابلة
–خلال الفترة التي أسس فيها معهد القويري الديني في خمسينيات القرن الماضي، هل كان المعهد رائداً أم سبقته معاهد دينية أخرى؟
معهد القويري الديني كان رائد التعليم الديني في ليبيا، وهو في ذات الوقت أول معهد في ليبيا كانت تبعيته للأزهر الشريف، أسسه أحد أبناء مصراتة في المهجر الراحل “عبدالله القويري”، وبدأت الدراسة بالمعهد الذي كان في البداية مسجدا به خلوات تحفيظ القرآن ومكان لإقامة الطلاب في عام 1951 – 1952م، وفي خلال تلك الفترة لم يرُق لحكومة الملك إدريس “رحمه الله” وجود المعهد، حيث صُوِّر لها على أنه سيكون جِسراً لمصر، وأنه سيعكر صفو حياتهم، فحاول الملك إدريس إقفاله في عديد المرات بحجة أنه لا يحمل مواصفات ومستلزمات المبنى المدرسي.
تلى تأسيس “معهد القويري الديني” معاهد دينية أخرى، مثل “المعهد الفرعي” بالبيضاء وسُمي بذلك؛ لأنه كان فرعاً لجامعة “محمد بن علي السنوسي الإسلامية” بالبيضاء التي كانت تُدرس منهج الأزهر، وفيما بعد افتتحت الجامعة فرعين آخرين لذات الجامعة بمصراتة “زاوية الشيخ سيدي عبدالسلام” وفرع بطرابلس “مالك بن أنس”، وفرع بسبها، هذا ما أعرفه.
–شهد عام 1960م افتتاح جامعة محمد بن علي السنوسي الإسلامية بالبيضاء، ومنها ازدهرت المدارس القرآنية والمعاهد الدينية في ربوع ليبيا، كيف كان دور تلك المدارس والمعاهد وقتها؟
اُفتتحت، ولكن على نطاق ضيّق، مثلاً في مصراتة افتتحوا مرحلة ابتدائية فقط، وفيما بعد ألحقوا بها مرحلة إعدادية، كما أنهم وضعوا من ضمن الشروط (حفظ القرآن الكريم)، وهذه تسببت في فجوة قدرها 8 سنوات بين التعليم الديني والتعليم العام.
على ذكر التعليم الثانوي، مثلاً بنغازي كان بها معهد ديني لكن لم يكن ثمة إقبال عليه، ولم ينمُ حيث لم يزيد عدد طلابه عن 50 طالباً؛ لأن من الطلاب وقتها من كان يرى المنهج صعباً.
في مقابل ذلك، خرّج معهد القويري الديني ثلاث دفعات في الفترة من 1956 – 1958م وقد كافأت حكومة الملك إدريس وقتها معهد القويري الديني بإيقاف الدراسة به في عام 1959م، وحجتهم أنهم فتحوا معاهد بديلة عنه كانت فروعاً للجامعة الإسلامية، ولا ننكر أن توقف الدراسة بمعهد “القويري” تسبب في أكبر خسارة باعتبار أن طلابه الذين كانوا من مدن ليبية عدة كانوا متأهبين لإكمال دراستهم في مصر، وفق اتفاق أبرم بين المعهد والأزهر الشريف.
أذكر في تلك الفترة أن الدراسة كانت بشكل جماعي بين الطلاب؛ لتصحيح الفهم مع المعلم، وزيادة الاستيعاب، كما أننا ـ أثناء دراستنا بالمعهد ـ كنا نُصنّف الاستماع إلى الراديو من المُلهيات؛ لأننا نريد رفع راية بلادنا عالية، ولا نريد القيام بأي شيء يحسب علينا ويسيء إلينا.
تعليم الرسالة رسالة، أذكر مثلاً أن الشيخ الراحل “مفتاح اللبيدي” كان لا يتقاضى إلا 6 دنانير شهرياً كمرتب يجمعه له طلابه، وكان يدرس في ثلاث فترات، في الصباح وفي الظهر وفي المساء.
–هل استفادت المعاهد الدينية في ليبيا وقتها من تجارب الأزهر فقط، أم استفادت حتى من جامعة الزيتونة بتونس وجامعة القرويين بالمغرب وغيرها في إعداد المناهج؟
علماؤنا كانت لهم شخصيتهم، مثل العلاّمة الراحل “محمد مفتاح قريو” الذي كان من النوابغ وكان يُذّكرنا بعلماء الأندلس، وأيضا الشيخ الراحل “مفتاح اللبيدي”، وهناك آخرون أمثالهم، ما بين مصراتة وزليتن كان لدينا أكثر من 25 عالما “كانوا على مستوى”.
–لماذا لم يتولوا إعداد مناهج التعليم الديني وقتها؟
لم يُطلب منهم ذلك
– المعاهد الدينية كان لها دور هام في تخريج العلماء والوعاظ والخطباء، وأسهمت في إرساء الثقافة الإسلامية والحفاظ على اللغة العربية والهوية الإسلامية وانتشار الفقه الملكي والحفاظ عليه كمرجعية في الفتوى والأحكام الشرعية، هل من تخرجوا من المعهد وقتذاك أصبحوا وعّاظا وفقهاء بمجرد تخرجهم أم كانوا يخضعون لامتحانات تسبق ذلك؟
حصولهم على شهادات لا يعني أي احتمالات، فلا يعني إلا أنهم كانوا جديرين بالشهادات التي تحصلوا عليها، مثلاً زاوية الشيخ كان بها علماء كبار، وأولئك العلماء هُم من وقفوا للاستعمار ووعّوا الناس، ومن تحصلوا على شهادة التعليم الديني من ليبيا هم من كانوا يتولون شؤون المساجد في الخطابة والوعظ، أما العمل في سلك القضاء والنيابات فكان لمن تخرجوا من الأزهر الشريف، مع أهمية الإشارة إلى أن ثلاثة من علماء مصراتة الأفذاذ المشائخ الراحلين “محمد مفتاح قريو”، و “مفتاح ابراهيم اللبيدي”، و”الطيب بن طاهر المصراتي” تحصلوا على الشهادة العالمية المؤقتة بعد امتحانهم في 13 علما شرعيا في الامتحانات التي جرت حينها بمدينة البيضاء، وأولئك – رحمة الله عليهم – كانوا علماء بدون شك.
أدرتَ أبرز معاهد التعليم الديني بمصراتة “معهد القويري الديني” لثلاثة عقود بدءًا من السبعينات، كيف تصف لنا هذه التجربة و هي ليست بالسهلة، وهل نجح التعليم الديني وقتها في إظهار وسطية الإسلام وبعد الليبيين عن التطرف؟
تجربة ادارة المعهد كانت سهلة وكان حملها خفيفا، لوجود طالب لديه رغبة في الدراسة، وأستاذ يريد التدريس، أذكر أننا كأساتذة كنا نتضامن من أجل هدف واحد، وهو إنجاح المعهد والإشراف عليه، وبالفعل طلابنا وصلوا لمستوى متقدم بالفعل، حتى أنني أدرت المعهد لثمانية وعشرين عاماً، ولم يستوقفني ولي أمر واحد ويسأل لِمَ لَمْ ينجح ابنه؟
أما دور التعليم الديني في اظهار وسطية الإسلام فكان كبير جداً؛ لأن أغلب من كانوا يُدرّسون بمعاهد التعليم الديني كان لديهم تعلق بالدين، ورغبة فيه، وأتوا للدراسة بالمعهد، بعد دراستهم في مدارس قرآنية درّسهم فيها مدرسون أكفاء.
–أوقفت الدراسة بمعهد القويري الديني خلال الثمانينيات، فما هي أسباب الإيقاف، هل كانت لكم أي محاولات لاستئناف الدراسة بالمعهد؟
في تلك الفترة استغربنا إلغاء التعليم الديني، وتساءلنا كيف يلغى رغم أن من يتخرجون منه لم يكونوا دفعات كبيرة، ورغم أن الطليان كانوا يحترمون التعليم الديني حينها؟ وفي مقابل ذلك كانت لنا محاولات بالفعل لعودة الدراسة بالمعهد، وذلك عندما علمنا في إحدى المرات أن “أحمد إبراهيم” – أحد رموز النظام السابق في ليبيا – أتى لمصراتة، طلبنا من الأستاذ “محمد عبد المطلب” مسؤول النشاط المدرسي، والمرحوم الشيخ “محمد الفرجاني عمر” مسؤول التقويم والقياس مرافقتنا لمقابلته وإبلاغه أن ما نقوم به هو ترسيخ للقرآن شريعة المجتمع، ومطالبته بمحاسبتنا عن أي تقصير، أتذكر أننا بقينا معه 8 أو 9 دقائق، ولم ينبس ببنت شفه.
–هناك من يرى حاجة البلاد اليوم إلى إحياء دور تلك المعاهد الدينية وفق منهج شرعي تربوي يجمع ولا يفرق، هل تتفق مع ذلك أم أن وجود الكليات الدينية حل محل تلك المعاهد؟
نتمنى ذلك، الموضوع فيه تدرج، نحن نتساءل دائماً هل هم يريدون تعليما واحدا؟ لن نقول لا، لكن بشرط أن يكون 50% من المنهج الدراسي من الصف أول ابتدائي إلى الشهادة الإعدادية عن اللغة العربية والشريعة، وذلك لنضمن أن طلابنا تخرجوا من الشهادة الإعدادية وكانوا محصنين ولغتهم العربية جيدة، وما يلفت الانتباه بالفعل هو أن القانون الفرنسي يتضمن “آية الدَّين”، كما أن الفرنسيين نصبوا تمثالاً للعالم المسلم “ابن رشد” ويقيمون مهرجاناً باسمه؛ لأن فلاسفتهم درسوا عنه، لماذا فرّطنا في بضاعتنا؟ نحن نحمل تراثا لا يحمله أحد، فمن علمائنا من كتب 20 مجلدا.
–ماذا عن الآثار التي تسبب بها إلغاء المعاهد الدينية في تلك الفترة، وهل ظهور التطرف في بلادنا من جملة أسباب الإلغاء؟
الفراغ دائماً له نتائجه غير المطلوبة، لا بد أن نعتز بديننا ونفخر به، مذهب الإمام مالك له 14 قرناً، لماذا لم يلغِه أسلافنا؟ وما هو مطلوب من الدولة اليوم هو أن تقول ما هي هوية الشعب الليبي، لنستعد للعمل فيما بعد، فكما قال دستور “الملك إدريس” – رحمه الله – إسلام وعروبة وسطية ويتمذهب بمذهب الإمام مالك، فهل يعقل أن يخالف أئمة الإسلام كتاب الله أو حديث رسوله، وهم أشد الناس خوفاً من الله سبحانه وتعالى، وهم الذين أراحونا من التعب؟ لماذا نختلف مع أن الاختلاف منبوذ شرعاً؟!
–كيف ترى واقع التعليم الديني في ليبيا، وهل أنت متخوف بالفعل من غياب دور التعليم الديني، وما هي مطالبكم من الدولة اليوم بشأن التعليم الديني؟
التعليم الديني يعتبر من ثوابتنا ومن هويتنا، ولا بد من أن نحرص عليه، وأن نوفر له جميع سبل النجاح بكل الطرق، والاستفادة من الخبرات، حتى لا ننتهي، وإلا فإننا سنكون أمام أجيال لن تعرف أبسط أحكام دينها.