أدّى التدخل الروسي المباشر في الحرب التي يشنها خليفة حفتر على طرابلس إلى تغيّر واضح في الموقف الأمريكي الذي بدأ أكثر اهتماماً بالملف الليبي، وأخذ مركزاً متقدماً في أولويات الإدارة الأمريكية، بعد أن كان ملفاً ثانوياً إذا ما قورن مع ملفات أخرى ساخنة في المنطقة.
انخراط الروس في دعم خليفة حفتر وإرسال جنود تحت غطاء شركات أمنية خاصة مثّل تهديداً صريحاً للنفوذ الأمريكي والأوروبي في المنطقة المتعارف على أنها منذ نهاية الحرب العالميةالثانية خارج نطاق النفوذ الروسي، وصدّق هذا التدخل الواضح تقارير أمريكية حذّرت من طموح روسي في كسب موطئ قدم في الشمال الأفريقي يطل على البحر الأبيض المتوسط، ويكون على الحدود الجنوبية لأوروبا، بعد أن تمكن الروس من توسعة نفوذهم في شرق المتوسط بتواجدهم في قاعدة طرطوس البحرية في سوريا.
لذلك فإن التغيّر في الموقف الأمريكي مدفوعٌ بالسعي وراء مصالح واشنطن في المنطقة والخوف من توسع النفوذ الروسي، وهذا الأمر بدأ يُقلق إدارة ترامب المُقبلة على الانتخابات في العام القادم، والتي تراها أوساط أمريكية كثيرة قد خسرت نفوذها في شمال سوريا لصالح الروس، ولا تريد أن تخسر منطقة نفوذ جديدة مما قد يزيد قائمة الانتقادات الموجهة لترامب بسبب سياسته الخارجية المضطربة.
وإذا كان التغيّر في الموقف الأمريكي وتقاربه مع المجلس الرئاسي، والذي بدأ واضحاً في بيان وزارة الخارجية الأخير، دافُعه المحافظة على مصالحها ومصالح حلفائها الأوروبيين، فلا بدّ لنا أن نتساءل هنا، هل المجلس الرئاسي يضع في اعتباره هذا الدافع، ويبني عليه سياسته أم لا؟
يمكن القول: إن المجلس الرئاسي يصرّ على حالة الجَبْرية السياسية، بحيث يرى نفسه ريشة في مهبّ رياح المواقف الدولية تقلّبه كيفما تشاء، لذلك فهو لا يتحرّك إلا بناءً على ردّات الأفعال ولا يملك أي روحٍ لأخذ زمام المبادرة والمضيّ قدُماً في عملية سياسية يملك من مقوّماتها الكثير، مستريحاً إلى حالة العجز التي وضع نفسه فيها، فالمجلس الرئاسي ليس في حسبانه تطوير المواقف من نفسه، وحتى المبادرة التي أطلقها رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج في منتصف يونيو الماضي كانت ردة فعلٍ على الانتقاد التي وُجّه إليه بسبب غياب الرؤية السياسية، ثم إن هذه المبادرة إلى الآن لم يتمّ العمل على إنضاجها وتطويرها، بل يشار إليها في ثنايا الكلمات الرسمية دون جدّيّة تشعر برغبة حقيقية في العمل على أساسها.
أيضاً فإصرار المجلس الرئاسي على عدم رفع مستوى الأداء الحكومي وتطويره بما يلائم حالة النفير العام، وتجاهل حقيبة الدفاع وإبقائها شاغرةً يثير التساؤل حول الآلية الاي يُقيّم بها المجلس الرئاسي الظرف الوطني القائم، وللقارئ أن يتخيل الزخم الذي كان سيحمله الاجتماع الأمني الذي عقد في الولايات المتحدة بحضور وزيري الداخلية والخارجية لو صحبهما وزير للدفاع لتكون الشراكة الأمنية مع واشنطن أكثر تماسكاً وليرسل رسالة واضحة بعزم المجلس الرئاسي على بناء المؤسسة العسكرية ويناقش مع الأمريكيين مخاوفهم بخصوص الوضع الأمني ودمج القوات المساندة.
من المؤسف القول: إن المجلس الرئاسي رغم تطورات الأحداث التي تجعله الأقرب والأنسب لعقد شراكات أوروبية وأمريكية استراتيجية، لا يسعى ليثبت أنه شريك يُعتَمد عليه ويمكن الرهان على أدائه، وهذا ما يجعل كثيراً من الدول المعنية بليبيا والتي لا تحبّذ التقارب مع حفتر، تتقارب بحذر من الرئاسي، بسبب الهشاشة التي يصر المجلس الرئاسي على الوقوف عليها، دون محاولته بناء قاعدة صلبة يقف عليها مع شركائه.
ومما يزيد المشهد تعقيداً هو ضعف صلاحيات الأجسام التشريعية وصعوبة آليات ضغطها على الرئاسي لإخراجه من حالة الجبرية السياسية التي يضع نفسه فيها، وهو ما يجعل العبء في الضغط يقع على عاتق الرأي العام من خلال الإعلام والحراك المدني والكيانات السياسية.