مهما اختلفت المسميات للتحولات الكبرى التي تضرب المنطقة العربية، وتصاعد الجدل بشأنها بين من يعتبرها ثورات شعبية و من يراها مجرد انتفاضات لا ترقى إلى الثورة، أو من يعتبرها مؤامرة جديدة تستهدف البلدان العربية، فالمؤكد أن ما يجري منذ 2011 هو تحول عميق وواسع سيغير المنطقة العربية بشكل جذري، ولأن هذه التحولات ما زالت تتفاعل في موجة جديدة ستعقبها حتما موجات أخرى سيتأجل الحكم الفاصل والحاسم في تصنيفها إلى ما بعد رسوها النهائي على الشكل الذي سترسمه فصول النهاية، فالمؤرخون لا يستعجلون في إطلاق الأحكام القطعية على حدث تاريخي بالغ الاتساع والخطورة رغم أن التطورات تشير إلى تحول طويل وعنيف، أي حالة ثورية ممتدة ستستغرق زمنا طويلا، لن تعود أوضاع البلدان العربية بعدها إلى ما كانت عليه قبل ما عرف بالربيع العربي.
فالانتفاضات تنجح السلطات عادة في السيطرة عليها ببعض التنازلات، ويعود المنتفضون إلى بيوتهم فرحين بما حققوه من مكاسب، والمؤامرات تعجز عن تحريك الملايين ودفعهم إلى مواجهة الموت في الميادين، وإذا كانت ثمة أسباب حقيقية ومطالب مشروعة لخروج الناس وتحدي السلطات القمعية، فلا مجال مطلقا للحديث عن و جود مؤامرة، ففي هذه الحالة يكون استمرار الأوضاع القائمة التي تكرس بقاء السلطة المستبدة الفاسدة في الحكم والسيطرة هو المؤامرة.
ومثل كل الثورات في التاريخ تحالفت الأنظمة القديمة مع العدو الخارجي لعرقلتها ثم إجهاضها، في هذا السياق انتشر الإرهاب وأسّس تنظيم داعش دولته وعمّت الفوضى والحروب الداخلية ثلاثة من بلدان الموجة الأولى للربيع العربي، وعاد العسكر أشرس مما كانوا عليه بالانقلاب على المسار الديمقراطي في مصر، وصعد لسدة الحكم جنرال جديد يستأنف الحكم الشمولي السابق بعد انقطاع مؤقت بفعل الثورة.
كثيرون تيقنوا فشل التغيير، واستسلموا لنظرية استعصاء التغيير في البلدان العربية، بينما اعتبره المتفائلون مجرد انتكاسة للثورة، ولكن سَدَنة الأنظمة القديمة لم يتنفسوا الصعداء حتى باغتتهم الموجة الثانية من الاحتجاجات في أربع بلدان بعضها لم يوضع على خارطة انتفاضات محتملة لعدة أسباب، وأقصد هنا العراق و لبنان، أما التحاق السودان والجزائر فقد كان متوقعا؛ لأن دواعي الثورة ترسخت فيهما بفعل الفساد المخيف في منظومة السلطة.
انتشار عدوى الثورات على امتداد الخارطة العربية يؤكد عدة حقائق، أهمها الترابط العضوي بين شعوب المنطقة ووحدة الانتماء و المصير، ويؤكد على تشابه، بل وأحيانا تطابق، الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في كافة الدول، فلا سلطة في المنظومة العربية المتداعية على رؤوس المستبدين في مأمن من الثورة، لا عصمة لزعيم أو حزب من تدفق الجماهير في موعد يتعذر التنبؤ به إلى الشوارع و الميادين، للمجاهرة بمطالب مشروعة تتصاعد إزاء عنف السلطة إلى الدعوة لإسقاط النظام.
بعد عامين من انطلاق شرارة الربيع، أي في عام 2013، أطلقت القوى المضادة للتغيير سهامها، نجح الانقلاب في مصر، وبدأ جنرال آخر في ليبيا بالتحرك لتصفية الثورة مسنودا من الأنظمة المرتعدة من السقوط السريع لدكتاتوريات عريقة، وبدأت الاغتيالات في تونس، واضطرب المسار الانتقالي في اليمن، وعمّت الحرب والجماعات المسلحة سوريا.
ست سنوات و الفوضى و الحروب مازالت سائدة في ليبيا واليمن وسوريا لكن من دون أمل في عودة الدكتاتورية رغم كل هذا القتل والتخريب والتهجير والإرهاب، صمدت قوي التغيير ماضية بتونس في مسار سلس وشكلت نموذجا لتجربة ناجحة في الانتقال، بينما استفحلت الأزمات في مصر وتزايد معها حجم الغضب الشعبي المسيطَر عليه بالقبضة الأمنية فقط مما ينذر بانفجار جديد، فالثورة إذا لم تحقق أهدافها تندلع مجددا بشكل أعنف، الانتصار على الثورة مؤقت ويتطلب مستوى غير عادي من العنف، ولكن العنف يعجز عن ضمان استسلام الناس للخوف وعدم عودتهم للميادين، والاستمرار في حالة الطوارئ مكلف، فالدول التي تقاوم حركة التحول تستنزف مقدرات شعوبها في معركة خاسرة، فسقوط الأنظمة الدكتاتورية حتمي، ولن تتعدى مكاسبهم غير تأجيل اكتمال دورة التغيير وبزوغ عصر جديد على الشعوب العربية يُعيدها إلى العصر الذي تعيشه البشرية اليوم.
اللافت أن الموجة الثانية خلَت من اتهام المتظاهرين بالإرهاب ولم نرَ زعماء القاعدة أو داعش يباركون الانتفاضة معلنين عن مشاريعهم لدعمها في أي من الدول الأربعة، ولم نسمع بتهمة ارتباط الحراك بالعدو الصهيوني أو القوى الخارجية إلا في نطاق محدود لم يُحدث أي صدى، وكأن القوى المضادة للثورات أدركت عدم جدوى الوسائل القديمة التي فشلت في كبح عجلة التغيير، وعجزت عن ابتكار وسائل حديثة تصد هذا المد الثوري المتعاظم.
اللافت أيضا أنه لا رايات ارتفعت غير الرايات الوطنية، لا رايات حزبية في العراق، ولا صور صدام حسين أو أي من رموز النظام البعثي السابق، فلا أحد يريد العودة لزمن الدكتاتورية، ولم ترفع صور زعماء الطوائف في لبنان أو رايات أحزابهم، إنها ثورة وحدت الشعب في كلا البلدين ضد الهيمنة الخارجية وامتداداتها الطائفية بالداخل، مع صمود أسطوري في الميادين والمطالبة بالتغيير الجذري والشامل.
قطعا لن تستسلم القوى المضادة للتغيير وستظل تقاوم حتى آخر رمق، فالصراع بالنسبة لها وجودي واكتمال التغيير يعني موتها وانحسارها، حتى مع فقدانها الأمل في تحقيق أي انتصار حقيقي على الثورة في أي بلد، والعاصفة ستجتاحهم لا محالة فلن يكون استمرارهم مُجديًا لقوى الهيمنة الغربية بعد التغيرات التي ستفرض واقعا جديدا وآليات مختلفة في العلاقات والمصالح. نضال الثورات والتغيير طويل لا يتوقف حتى يصل إلى مُستقَرّه النهائي، وهذا النضال لا يمضي عادة في خط مستقيم بلا انحرافات وانكسارات، الأمر يشبه سقوط صخرة ضخمة بفعل ثقلها الخاص بشكل عشوائي من قمة جبل، في رحلة هبوطها ترتطم بنتوءات وصخور الجبل بحيث يمكن لأصغر حجر أن يحرف الصخرة، لكن وصول الصخرة واستقرارها في السفح حتمي، وأي عمل يستهدف إيقافها وإعادتها للقمة ليس سوى عبث وهدر للوقت والجهد؛ لأنه ضد طبيعة الأشياء، ضد حركة التاريخ الذي يتقدم دائما إلى الأمام مهما كانت العوائق.