مواطن يخاطب صورة لحفتر لا تغني ولا تعصم الدماء، وآخر يؤكد تبعيته لحفتر حتى “يموت الشعب الليبي كله بالكامل”، مقطعان من فصل “عبودية القطيع” في كتاب حفتر الأسود، ولكن كيف ترسخت هذه العبودية، وما هي مبرراتها؟!
أطلق حفتر عملية “الكرامة”، ويمكن أن نفصل ما ساقه من مبررات إلى ثلاث جزئيات غرر بها حفتر أتباعه وهي: الأمني، والاقتصادي، والديني، وهي ذاتها التي خالفها، وكان أول من نقضها.
الأمني:
في بدايات انقلاب حفتر أعلن أن هدفه ومبرره الرئيسي إنقاذ البلاد مما يسميه الإرهاب، وهذه الحجة هي التي دمر بها مدينتي بنغازي ودرنة، وتقصف بها مدينة طرابلس اليوم، وقد استغفل كثيرون بهذه الحجة، لكن بعد ما تكشف عنه الواقع من دعم حفتر ومن خلفه لتنظيم داعش ومهادنتهم وتيسير تنقلهم داخل البلاد، وكذا وجود عناصر من المخابرات المصرية داخل هذا التنظيم وغيره، فإن هذه الحجة تتبخر أمام هكذا وقائع.
أما عن التفجيرات والاغتيالات واستهداف عناصر “الجيش” فقد تبين باعتراف قيادات وعناصر كثر في عملية بغيه أنهم هم من كانوا يخططون وينفذون، حتى وإن لم يكن؛ فاستمرار التفجيرات -التي عايشتها بعثة الأمم المتحدة عن قرب- والاغتيالات التي تغص بها ذاكرة المنطقة الشرقية بعد عمليته الانقلابية كفيلة بأن تسقط هذا المبرر وتثبت فشل حفتر في تحقيق وعوده.
وجدير بالدراسة أن كل منطقة يتخذها حفتر ومن خلفه من أعدائنا هدفا حيويا تتواجد بها جماعات إرهابية كمبرر لغزوها، والجنوب شاهد على مثل ذلك.
أما ما اتخذه حفتر أداة للقضاء على ما يسميه الإرهاب فإنه اتخذ “الجيش” أداة لذلك، وأشاعوا بذلك شعار الأمن والأمان الذي لم تره المدن الواقعة تحت وطأة طغيانه منذ سيطرته عليها، وهذه الأداة يدرك كل ليبي عدم جدواها لعدم وجود جيش حقيقي في البلاد، وما واقع أسر الصبيان في معركة طرابلس إلا شاهد على ذلك، وقد رأت بنغازي أشكالا أكثر قبحا مما يسمونه بـ”الجيش”.
وما إرهاب وإجرام أفج من اختطاف نائبة من منزلها في مدينة “تنعم بالأمن والأمان” من قبل زبانية حفتر!
الاقتصادي:
وبعد تقهقر حجة الإرهاب عند أسوار طرابلس، كان لابد من مبررات أخرى ليستمر الحشد الداخلي للمحرقة واستنزاف الشباب الليبي، فكانت حجة مكافحة الفساد والتوزيع العادل للثروة وأخذ حقوق أتباعه، كأنما لم يكفهم نشر الإرهاب فإذ بهم يريدون أن يجعلوا ما لله وما للشعب لحفتر وأبنائه وزبانيته.
ولا يستغرب هذا المبرر فقد أقفرت خزائن الدولة المصرية وأعلنت في بيان خارجيتها بشأن الوضع في ليبيا بأنها تشجع على التوزيع العادل للثروة لحل الأزمة في ليبيا.
والمستغرب أن يصرح غسان سلامة بمثل ذلك، ويشجع على زيادة تأزيم الحالة الليبية وتوسعة نطاق الأزمة بهذا الرأي وهذه النظرة.
أما حفتر والتوزيع العادل للثروة، فقد ثبت أن كل مورد تمكن منه حفتر وزبانيته لم يصل منه إلى قطيعه إلا لافتات الباغي التي أظلمت بها مدن الشرق، مع أن الموارد التي تمكن منها حفتر يمكن أن تغني سكان المنطقة الشرقية من غير حاجة إلى الحكومة المركزية في طرابلس، إلا أن البغي ودوافع عمله العسكري لها أهداف أخرى
أما الفساد وحفتر فسردية طويلة تطول بقدر تأثيرها على الاقتصاد الوطني، فتهريب النفط وتصدير الخردة ومراكمة ديون تقدر بـ 35 مليار دينار خارج النظام المصرفي الرسمي كفيلة ببيان حجم فساده، والأثر الذي سيخلفه هذا الفساد على الاقتصاد يعجز القطيع عن دركه.
ويبدو جليا أن معالجة حفتر للمطالب الاقتصادية لأتباعه لن تعدو كونها استنساخا للتجربة المصرية التي أراد أتباعه أن يكون لهم سيسي كسيسي مصر، فتصدير الخردة عن طريق هيئة الاستثمار العسكري والأشغال العامة ما هي إلا كشركات الجيش المصري التي تدر الأرباح على ذوي الرتب العالية من المقربين، اللذين لا هم لهم بالقطيع.
التابع لا يريد من حرب سيده حفتر على طرابلس إلا مرتبه، مرتبه الذي لن يربو على ألف دينار!
هذا التابع يتبع مستبدا يتعاقد مع شركة أمنية روسية هي الفاغنر، الشركة التي تعاقدت مع بشار الأسد لتحرير حقول النفط في سوريا مقابل حصول الروس على 25% من الإنتاج.
هذا وما خفي من عقود مع شركات ودول أخزى وأمر.
الديني:
طاعة ولي الأمر هي الركن السادس للإسلام، هذا ما تحدث به الطوائف “الإسلامية” رغم تنوعها وتباينها، إلا أنهم اتفقوا على ذات الركن.
مبرر ديني سيق به كثيرون لحتفهم، أنتجه التخلف وموله أعداؤنا الداعمون لحفتر، أثبت هشاشته وفساده.
ويمكن أن نجمل في القول بأن هذا المبرر له شكلان أو تياران: الصوفي النايض والسلفي المدخلي.
أما صوفية النايض فإنها اتخذت من خريجي الأزهر تلاميذ عند سفاكي الدماء المصريين، ليتعلموا منهم سبل التزلف وآليات التخدير المجتمعي، إلا أن دورهم في هذه المرحلة قاصر ووظيفتهم تبدأ عندما تلعب ورقة عارف النايض.
أما سلفية المدخلي، فقد أثير تساؤل لا يحتاج كثير تأمل: هل هم جند الله أم جند حفتر؟ ويمكن أن يستقى الجواب من حال جماعتهم في المنطقة الغربية المحاربين لهم، الحائرين بين الموقف الديني من الظلم والموقف المدخلي.
إلا أن المداخلة يجيرون الآيات والأحاديث لدفع الشباب للمحرقة في سبيل وصول ولي أمرهم ولو كان كافرا، فلا ينتظر منهم رد فعل على أي ظلم يعمله.
والجامع بين هذين التيارين أن خطابهما موجه للشعب دون الحاكم، اللوم كله على الشعب والظلم كذلك، ولهذا يجب ألا نفصل التيارين عن السياق الذي يعملان فيه، فالسياسة السعودية والإماراتية داعمة لحفتر.
والفارق بين تيارات البؤس الديني هو هذا: أن خطاب المرجئة من صوفية النايض وسلفية المدخلي موجه للشعب دائما وخطاب الخوارج موجه للحاكم دائما، وهذه المجموعات كلها مع حفتر اليوم؛ لأن الحاكم الذي من المفترض أن يسمع له حسب منطقهم هو المجلس الرئاسي، وبهذا جمع حفتر الخروج والإرجاء معا.
وفي فترة الانكشاف التي نمر بها فإن مبررهم الديني واه، لأن الخطاب الديني الذي أنتجوه وما ساقوه من مبررات قد ضرب في مجمله مقاصد الشريعة الكلية من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
وما فعله حفتر من إزهاق للسيادة الوطنية وتقديم مصلحة مصر والإمارات وغيرها كما صرح بنفسه لحقيق بأن ينفر من حوله إلا أن حب التسلط يطغى على كل القيم عند القطيع، لكن من أعان ظالما سلطه الله عليه، وهذا ما رأيناه في أفرادهم وجماعاتهم، وقد ذكرني هذا بوزير الخليفة العباسي الذي أعان التتار طمعا في السلطة، إلا أن التتار دخلوا وأذاقوه أصناف الذل والهوان فأنشد أحدهم –وكأنما يشكو حال المدن وأهلها الذين أعانوا العميل حفتر-:
بادت وأهلوها معا فبيوتهم / ببقاء مولانا الوزير خراب
هذا والجرائم ووقائع الفساد والإرهاب الذي مارسه أكثر من أن تحصى، وأوضح من يحتاج إلى التدليل عليها.
وقد لا يستغرب أتباع حفتر أن يقصف مقرا تابعا لمكافحة الإرهاب في مصراتة، ولا يطالبون بشيء من الأموال المدفوعة للفاغنر والمرتزقة المحليين والدوليين، وسيسمعون ويطيعون “وإن كان يزني ويلوط” في حال “جهاد”! كل هذا؛ لأننا أمام حالة يمكن أن نسميها بـ”عبودية القطيع”.