رغم مآسي حرب حفتر على طرابلس وتكلفتها الباهظة التي ندفعها من دماء وأرواح شبابنا كل يوم غير أنها أحدثت هزّة واضحة في تفكير كثيرٍ من التيارات السياسية، وجعلتها أقرب إلى فهم الواقع والتعاطي معه من خلال الممكن المتاح.
إن الخطر الذي شكله حفتر بهجومه على طرابلس أسقط كثيراً من حواجز المكابرة السياسية لدى تيار عريضٍ من أصحاب التصلّب في المواقف والتعنّت في التعامل مع الممكن السياسي، ولعلّ في مواقف وتصريحات فضيلة المفتي الشيخ الصادق الغرياني شاهد صدقٍ على ذلك، وقد كان أكبر المعارضين للاتفاق السياسي في الصخيرات وما نتج عنه، حيث يمكن القول أن تصاعد الوضع بهجوم حفتر على طرابلس شكّل عامل نضجٍ سريعٍ في قراءة الشيخ للواقع وتبنّي مواقف أكثر انسجاماً مع طبيعة الأزمة والتعامل معها وفق المتاح، ومقالة الشيخ الأخيرة المعنونة بـ: “أقول لأهل فبراير”، حملت طيّاتُها رؤيةً متّزنة في غالبها وإن كانت متأخّرةً أربع سنواتٍ كما أشار الشيخ في مستهلّ مقاله.
حديث فضيلة المفتي عن العمل مع التيار الوطني المنادي بمدنية الدولة والمتمسك بمبادئ فبراير في إطار الأهداف والثوابت المشتركة والتسامي عن الخلاف، وتأكيدُه على اعتبار التدرّج في التغيير وأولوياته (وهذا هو عين إدراك الممكن في الواقع السياسي)، هو ما نادت به التيارات الوطنية التي اختارت الحوار آنذاك استراتيجية لحل الأزمة، وكان موقفها مبنياً على فهم جيداً للواقع وإدراكٍ عميقٍ للمتاح والممكن فيه، والذي لو تبنّت فيه موقف التعنّت والمكابرة لكان كلّ أهل فبراير اليوم خارج المشهد ما بين قتيلٍ وسجين ومطاردٍ مهجّر.
شجاعة المنخرطين في حوار الصخيرات ممن تحملوا تبعة التوقيع بالحروف الأولى وعانَوْا على مدار أربع سنوات معاداة شركائهم في الثوابت الوطنية مع مواجهتهم لمشروع الاستبداد الذي كان يراوغ في كل محفلٍ ومؤتمرٍ وملتقىً – إن شجاعة هؤلاء هي ما تجعل الأفضلية السياسية اليوم لـ”أهل فبراير” رغم أداء الحكومة الضعيف وتراخي المجلس الرئاسي وتباطئه في النهوض بمسؤولياته الوطنية، وهذه الشجاعة هي التي حرمت حفتر من أدواته السياسية وجعلت الدول التي تدعمه وتتبناه عاجزةً عن إخراجه من إطاره العسكريّ الذي أقحم نفسه فيه.
الاتفاق السياسي والمخاض الذي تلاه كشف القصور في إدراك الواقع السياسي وفهم المعطيات الممكنة في التعامل معه لدى كثيرٍ من التيارات الوطنية وعلى رأسها تيار دار الإفتاء، وهو ما أدّى إلى حدوث الشقاق والخلاف وإضعاف الجبهة الوطنية المناوئة لمشروع الاستبداد، واتهام نوايا المنخرطين فيها ورميهم بالعمالة والخيانة، رغم أن الواقع اليوم يشهد أن وجود مثل حزب العدالة والبناء وبعض الشخصيات الوطنية في ذاك المخاض كان ولازال عاملَ اتزانٍ في المشهد، وقد كان المجهود غير المنظور الذي بذل منهم مكلفاً جداً مع مرارة التخوين وقسوة التشويه والإساءة.
حديثنَا عن مقال الشيخ وتغيّر نظرته السياسية ليس تصيّداً للأخطاء أو تسجيلاً للمواقف، وإنما هو دعوة لكل الوطنيين من أبناء التيار الإسلامي أن يدركوا بيئة المعركة السياسية وتغيّر ظروفها وتقلّبها أحوالها، وأنّ مدافعة الخصوم -كما أشار الشيخ الغرياني في مقاله- هو طبيعة الممارسة السياسية، وهذا يستلزم إضافةً إلى ما ذكره الشيخ من تدرّجٍ وفهم للأولويات، يستلزم أيضاً اعتباراً للمآلات والمقاصد، وأن الممارسة السياسية الأصل فيها هو دفع المضرّة وتجنب المفسدة وجلب المنفعة وتحصيل المصلحة، والموازنة فيما بين ذلك، وأن هذا الأمر لا يعني أبداً التفريط في الثوابت أو التنازل عن المبادئ وإنما هو سعيٌ في ألا يهدمها التعنّت والمكابرة.
الكلمة الأخيرة التي نتمنى لدار الإفتاء أن تعيَها: أنها جزءٌ من كيان الدولة وإحدى مؤسساتها وأنّ خطابها الوطنيّ الجامع أحد أهمّ ما يعوّل عليه في توحيد الكلمةِ ولمّ الشعثِ، وأن إتاحتها البراح للاجتهاد السياسي ضمن الإطار الوطني يستلزمُ منها خطاباً يستوعبُ الجميع ويجعلها تنسجمُ في أدائها مع بقية مؤسسات الدولة وكيانها.