Menu
in

مبادرة جبريل…إعادة تدوير، والانحياز منطلقها

المبادرات السياسية أوقات ارتفاع صوت الحرب من شأنها أن تخمد شيئا من نيرانها، ذلك أن غالب الحروب إنما تنتهي بتسوية سياسية، وكلما استعجل أهل السياسة في تقديم المقاربات والحلول أسهموا في حقن دماء الأبرياء والمتقاتلين، وحافظوا على النسيج المجتمعي من التمزق والتهتك، وتداركوا الاقتصاد المتهالك من الانهيار، وصانوا مؤسسات الدولة الهشة من التلاشي والاندثار، أقول هذا الكلام غير آبهٍ بأصوات المزايدين الذين اتخذوا من مقولة: “إذا ارتفع صوت المدفع خفت صوت السياسة”، وهم أجبن من الخوض في غمار الأولى أو سبر أغوار الثانية.

هذا بكل تأكيد لا يعني القبول بأي مبادرة أو مقاربة قد تقدم من هذا الطرف أو ذاك؛ فربما زادت من تأزم الوضع وعمّقت الانقسام والصراع، وينتصر أصحاب المقولة الأولى، وليس لنا حينئذٍ إلا الانصياع لهم.

الدافع لكتابة هذا المقال ما خرجت به مجموعة من الشخصيات السياسية والأكاديمية الأيام الماضية على رأسهم الدكتور محمود جبريل رئيس حزب تحالف القوى الوطنية من مبادرة أطلق عليها “مبادرة لإنقاذ الوطن واستئناف العملية السياسية”، مقسّمة على مرحلتين، الأولى دعوة قوات حفتر إلى إنشاء منطقة عازلة لتوفير ممرات إنسانية، يُصاحب ذلك هدنة لإيقاف القتال برا وبحرا وجوا، ثم تشكيل قوة مكونة من الطرفين لها مهام مثل حماية هذه الممرات وكذلك مؤسسات الدولة المهمة ومراقبة تنفيذ الهدنة، أما المرحلة الثانية فتقوم على إقامة عدة مؤتمرات اقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية تمهّد لملتقى “ليبي ليبي” ولكن تحت رعاية الاتحاد الإفريقي.

إذاً فالمبادرة ترتكز على أمرين أساسيّين هما: هدنة مع منطقة عازلة تحميها قوة مشكلة من الطرفين، وملتقى “ليبي ليبي” برعاية الاتحاد الإفريقي.

بلا شك فإن أي مبادرة يسعى أصحابها إلى نجاحها، لابد أن تراعي مبدأ الواقعية، إذ لو كانت المبادرة طوباوية حالمة؛ فلن تكون سوى صرخة في واد أو نفخة في رماد، وستطوى مع التصريحات اليومية كأغلب التصريحات السياسية التي لا طائل منها.

إلا أن مبدأ “الواقعية” رغم بداهته، لم يراعَ في هذه المبادرة، أو على الأقل في مرتكزيها الاثنين اللّذيْن ذكرتهما آنفا، للأسباب الآتية: – في ظل معركة مشتدة بين الطرفين تصاحبها تصريحات متشددة من السياسيين في كل طرف، من الصعب القبول بفتح ممرات إنسانية أو القبول بهدنة، فضلاً عن تشكيل قوة مشتركة بينهما.

– الملتقى الليبي الليبي الذي تتحدث عنه المبادرة هو فنتازيا لا تصلح حتى لتأليف مسرحية؛ لأن عمق الانقسام بين الأطراف الليبية وصل إلى مستوى يستحيل معها حوار دون طرف خارجي قوي.

– في الوقت الذي أكدت فيه المبادرة على أن الملتقى سيكون ليبيًّا خالصاً، إلا أنها أكدت أيضا أنه برعاية الاتحاد الإفريقي، في إشارة إلى أنّ الأخير يُعد طرفا محايدا بين أطراف الأزمة الليبية، وهذا بعيد عن الحقيقة بُعد المشرقين؛ إذ إن الاتحاد الإفريقي ترأسه مصر، وكذلك مجلس الأمن والسلم الإفريقي، ولا يخفى على أي متابع موقف مصر المنحاز والداعم للعدوان على العاصمة.

هذا ما يجعل المبادرة مليئة بالفخاخ المنصوبة والواضحة، حتى وإن حاول أصحابها تغليفها بغلاف إيقاف الحرب أو ضرورة العودة إلى العملية السياسية.

إن خطر هذه المبارة يكمن في التفريط في الشرعية الدولية، وسحب البساط من مجلس الأمن وتسليم الملف الليبي لطرف منحاز للانقلاب على الشرعية، تمهيدا لوأد كل ما يتعلق بالاتفاق السياسي الذي نزع عن حفتر الشرعية حتى اضطر داعموه الإقليميون إلى دعمه من وراء ستار.

المبادرة تأتي في وقت تتلقى فيه قوات حفتر المعتدية هزيمة تلو الأخرى، ولم يعد له من قوة سوى الطيران الأجنبي الذي يقصف به المطارات المدنية، والتجاؤُه إلى مرتزقة الفاغنر والجنجويد دليل على أن حلمه في السيطرة على طرابلس قد ذهب أدراج الرياح، وهذه المبادرة بهذا الانحياز إن لم تُمكِّن له تمكينا كاملاً، فستجعله يلتقط الأنفاس ليعيد ترتيب صفوفه مرة أخرى ونعود لتراجيديا الدماء والأشلاء التي بدأها في 2014.

لدىّ كلمة أخيرة فى الموضوع لا أستطيع أن أقاوم المفارقة فيها، وهي أن المبادرة خرجت من رحم حزب تحالف القوى الوطنية، وحتى إن شاركت فيها بعض الشخصيات -التي لا نشكك في وطنيتها-؛ فإنها لا تعدو نسخة مطورة للمبادرة المقدمة من الحزب في يونيو الماضي والتي لم يلتفت إليها أحد، كما أن رئيس الحزب جبريل الذي يتبجح الآن بضرورة حقن الدماء لم يكن هذا رأيه في بداية العدوان قبل 6 أشهر، بل داس على هذه الدماء والأرواح في بيان لحزبه محذراً من تدمير قدرات ما سماه “الجيش الوطني الليبي”، في إشارة لمليشيات حفتر الغازية، ولن يعفيه من هذا الانحياز الصارخ مطالبته التي روجها في المبادرة بخروج “تيار ليبي ثالث” وهو يحلم -والأحلام حق للجميع- أن يتزعمه أو على الأقل أن يكون طرفا فيه.

أُترك رد

كُتب بواسطة raed_admin

Exit mobile version