هناك عسكريون لا يبدو لهم دور في التاريخ إلا ارتداء البدلة العسكرية الموشحة بالنياشين وتلقي الهزائم من خصومهم! لدينا مثلا في التاريخ الحديث المشير عبد الحكيم عامر الذي هزم في كل معركة خاضها (السويس 1956، اليمن 1962، سيناء 1967)، هزيمة واحدة من تلك كانت تكفى لإزاحته من قصة الجيوش والحروب ويريح ويستريح.. لكنه أبى إلا أن يختم حياته بهزيمة كل يوم 5 حزيران/ يونيو كما يقولون، والتي تأبى علينا الأحداث في الشرق الأوسط إلا وتذكرنا حدثا تلو حدث، وما كان مؤتمر المنامة مؤخرا إلا أحد أيامها الكبيسة.
لدينا في الأيام المعاصرة “المشير” خليفة حفتر نموذجا فذا للعسكري الذي أدمن الهزيمة. يحكي لنا تاريخ الحروب عن جنرالات كانوا يخرجون من نصر إلى نصر، لكن التاريخ احتفظ أيضا في صفحاته بجنرالات يخرجون من هزيمة إلى هزيمة، وها هو الجنرال حفتر يتبختر في أرض الهزائم قنعاسا منيعا.
تقول الحكاية إن حماراً كان يسير في الغابة فوجد جلد سبع تركه الصيادون ليجف، فلبسه ليكون مثل هيئة السبع، ومشى يتبختر حتى وصل إلى القرية، فظنه الناس سبعا حقيقيا وهربوا من أمامه.. ابتهج الحمار وأخذ يتنقل بين المزارع معجبا بنفسة، يأكل كل ما يقابله من طعام دون أن يعترضه أحد خوفا من قوته، وفي غمرة الإعجاب بنفسه عن له أن ينهق!! فنهق، وسرعان ما اكتشف الناس أنه حمار فاطمأنوا، وأخذه صاحبه بعد أن عرفه وهوى عليه ضربا بعصاة لأنه خوّف أهل القرية، ووضعه في الحظيرة وهو يقول له مستهزئا: لقد ساء ظنك أيها الحمار.. كم من حمير تلبس جلد السباع، ثم لا تكاد تنهق حتى ينكشف عنها ثوب الخداع.
ثلاثة شهور وهو يحاول دخول طرابلس، بعد أن قال للجميع أعطوني أسبوعا وأنهي الموضوع قبل الذهاب إلى غدامس في 14 نيسان/ أبريل (مؤتمر القوى الوطنية الذي دعت إليه الأمم المتحدة).. لكن مرت الأيام ودارت الأيام حتى تجاوزت المئة يوم، وإذا بحفتر لا يزال يحاول دخول طرابلس.. المثل الشعبي المصري العميق يقول: “هديتك ما اتهديت، والطبع فيك غالب، وديل الكلب ما ينعدل ولو علقوا فيه 100 قالب”.. حفتر لا يستطيع إلا أن يكون مهزوما أيها الناس.. هناك بشر بهم بعض الصفات من العبث محاولة تغييرها.
ومن هذه الصفات صفة “المهزوم”.. لا نعرف الكثير عن حياته الشخصية، لكن ما نعرفه عن حياته المهنية أنه شؤم مشؤوم مهزوم دائما، ويبدو أن السيدة والدته دعت عليه أن يكون “موكوسا” مدى الحياة. والموكوس اسم مفعول لــ”وكس”، أي نقص.. لكنها في العامية المصرية تشير إلى الخزي وخيبة المسعى والهزيمة المتلاحقة.
في رواية “الحرب والسلام”، لروائي كل العصور “تولستوي”، تعرفنا على الجنرال كوتوزوف الذي عرف كيف يصبر ويسكت، وفي النهاية دفع نابليون لهزيمة نفسه بنفسه.. يوم الأربعاء الماضي (26 حزيران/ يونيو) أعلنت حكومة الوفاق الوطني استعادتها مدينة غريان الاستراتيجية الواقعة على بعد 100 كم جنوبي غرب طرابلس، والتي كانت قوات حفتر تسيطر عليها وتتخذها مقرا لقيادة عملياتها العسكرية. وهذه الخطوة الاستراتيجية تكاد تماثل إنزال نورماندي في الحرب العالمية الثانية.. فقط مسألة وقت وتنتهي عمليه “تحرير طرابلس” بالفشل ويرجع حفتر إلى حالته الطبيعية، مهزوما دائما. وكما يقولون: الممارسة معيار الحقيقة.
استعادة غريان تمثل صدمة كبيرة لطموحات حفتر من الناحيتين الرمزية والسياسية.. سيصرخ حفتر ويعد باستعادة وشيكة لغريان، لكن الأمر سيكون صعبا للغاية أيها الجنرال.. فالمدينة المرتفعة محاطة تماما بقوات الوفاق. على الجانب الآخر، ليس لدى حفتر مكان آخر حول طرابلس لتأسيس مركز عمليات جديد.. ما نراه اليوم هو انهيار العملية العسكرية لحفتر بالكامل.. السياسي والمعنوي في الموضوع أخطر من العسكري والميداني، وستكون له تداعيات مهمة على المستوى الإقليمي والدولي الذي كان ينتظر تطورات عسكرية واضحة لتحديد الخطوات السياسية التالية.
بعد يومين من غزو حفتر لطرابلس، في نيسان/ أبريل الماضي، قال “عماد أديب” في جريدة الوطن المصرية، في 6 نيسان/ أبريل 2019: “في توقيت دقيق حساس ومختار بعناية، قامت قوات جيش ليبيا الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر ببدء عملية نوعية ضخمة لتطهير مدينة طرابلس من مليشيات التيار المضاد لها، وهي مليشيات الإسلام السياسي المندمجة مع جماعات الإرهاب التكفيري المدعومة من قطر وتركيا والتنظيم الدولي لجماعة الإخوان وحركة داعش”.. هكذا تحدث عماد.
عماد أديب شخص استراتيجي من رأسه حتى أطراف أظافره، والسطور السابقة ليست إلا دليلا “مبهرا” على دقة معلوماته ودقة توصيفاته ودقة نظراته، وهو شخص جدير بالتأمل الأميل.. وللغرابة أنك (لو دققت قليلا) ستجد أنه المعادل الموضوعي (إعلاميا) لخليفة حفتر!
إنه “الهُراء المتقن”.. خواء ورطانة وتمخيخات فارغة.. لا شيء على الإطلاق، لكن إياك أن تقترب من معادلة الهراء المنصوبة بدقة ساحرة. صاحب الهراء يضع ألف حاجز وحاجز أمام الوهم الذي يسوق به نفسه.. وعلى فكرة، هناك بشر كثيرون في هذه الحالة، ويعيشون حالة استنفار مزمن خشية أن تأتي لحظات الاكتشاف والانكشاف عكس أناس أقوياء بالفطرة؛ موهوبين بالفطرة. تخيل وأنت تقرأ هذه السطور مشهد المشير عبد الغني الجمسي (الجنرال المرعب كما تسميه إسرائيل)، وعلى الجانب الآخر تخيل خليفة حفتر!.. تأمل مثلا الأستاذ هيكل أو الأستاذ جميل مطر، وتأمل الأستاذ عماد الدين أديب!..
وعودة إلى موضوعنا، يقول الخبراء إن حفتر أساسا أساء تقدير الموقف الاستراتيجي بأكمله حين أخذ قرار غزو طرابلس؛ لأن غزو طرابلس عسكريا دفعة واحدة مستحيل.. خطة حفتر الهشة كانت تتمثل في اقتحام مجموعة صغيرة من القوات المدينة دون اشتباكات، ثم محاولة إقناع الجماعات المسلحة وأعضاء الأجهزة الأمنية بالانضمام إليها. لكن هجومه أتى بتأثير عكسي!! فالجماعات المسلحة في طرابلس وحولها، والتي كانت منقسمة فيما بينها، اتحدت ضده.
عسكريا، ليس أمام حفتر الآن أي خيار سوى نشر جميع قواته حول طرابلس، وهو خيار شبه مستحيل، كما لا يمكنه الآن التراجع لأن أتباعه وحلفاءه سيعتبرون ذلك هزيمة، إضافة إلى أن الانسحاب سيهز صورته في الشرق الذي يسيطر عليه منذ سنوات. هكذا قال أحد الخبراء بالشأن الليبي في (المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية )، والذي أضاف: إن خصوم حفتر جماعات ثورية محلية من طرابلس والمدن المحيطة بها، وهم يدافعون عن مدنهم وأهلهم، ويخشون ببساطة تأسيس دكتاتورية عسكرية، واستفادوا من غطاء الشرعية التي يتمتع بها السراج وحكومة الوفاق.
السراج وصف المشهد كله بكلمات قوية وصريحة، فقال: نبذل منذ ثلاث سنوات جهودا معتبرة بمساعدة الأمم المتحدة، من أجل تجميع الأسلحة وإدماج الجماعات المسلحة ضمن جيش وشرطة وطنيين. وقال: هناك فعلا مجموعات مسلحة قدمت من مصراتة ومن غيرها، لكن هؤلاء هم الشبان الذين هزموا “تنظيم الدولة الإسلامية” في سرت في عام 2016.. إنهم أبطال وليسوا إرهابيين كما يقول حفتر (وهو ما أكده عدد من النواب في الكونجرس الأمريكي). وأضاف السراج: إنها ليست حربا ضد الإرهاب، كما أنها ليست حربا بين غرب وشرق ليبيا، إنها حرب “قيم”.. تمثل في الدفاع عن الديمقراطية والدولة المدنية.
المصدر: عربي 21