كالطاووس تعوّد أن يتصرف لكن ريشه يـُــنتف هذه الأيام في طرابلس. خليفة حفتر، المزهو بلقب المشير مع أنه لم يخض في حياته كلها إلا حربا خاسرة ضد تشاد في الثمانينيات أسر فيها، وأخرى يخوضها حاليا ضد أبناء شعبه في غرب ليبيا تحت يافطة مهترئة إسمها محاربة الإرهاب.
لم يجد حرجا في التصريح علنا بأنه سيحسم معركة طرابلس في غضون أسبوعين على أقصى تقدير، وأنه لا مجال للتقهقر بين صفوف مقاتليه فكل «جندي يتراجع طلقة في رأسه»، وهو المبدأ الذي لو طبق لكان حفتر نفسه في عداد القتلى في معركة «الدوم» الشهيرة التي ألتقطت له فيها الصور وهو منكسر ذليل، ولولا «نجدة» الأمريكيين له وتدخلهم لإطلاق سراحه واحتضانه لاحقا لتدريبه على أراضيها لما سمع به أحد الآن.
وإذا ما تركنا جانبا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المعجب بكل مستبد باطش بشعبه فإن أصواتا أمريكية عديدة ارتفعت هذه الأيام للتحذير من مغبة دعم هذا المغامر المهووس بالسلطة والمتعطش لحكم شعب بقبضة حديدية، مع أن هذا الشعب الذي ثار على حكم القذافي وتسلطه الممتد لاثنين وأربعين عاما لم يفعل ذلك ويقدم كل هذه التضحيات ليعود لهم قذافي آخر في نسخة منقحة ومشوهة تحركها أحقاد وعقد قديمة وجديدة.
يكفي هنا أن نشير إلى ما قاله المبعوث الأمريكي السابق إلى ليبيا جوناثان واينر في تغريدة على حسابه في «تويتر» من أن حفتر عبر له في اجتماعين عام 2016 عن رفضه لأي تمثيل ديمقراطي في ليبيا وإنه لم يكن على استعداد لإخضاع نفسه لأي حكومة مدنية أو لأي شخص آخر. وأضاف واينر أن حفتر قال له إنه سيحكم بمرسوم حتى تصبح البلاد جاهزة للديمقراطية في وقت لاحق. أما غسان سلامة فلم ينكر، رغم حرصه على التوازن والدقة كمحلل سياسي أكثر منه مبعوثا دوليا مطالبا بتحديد المسؤوليات، على أن حفتر يحكم بيد من حديد في المناطق التي هي تحت سيطرته حاليا.
عندما نعرف أن دونالد ترمب هو من يدعم حفتر ومعه فلاديمير بوتين وعبد الفتاح السيسي والملك سلمان ومحمد بن زايد وأخيرا إيمانويل ماكرون، في مفارقة فرنسية مزعجة، فإن الخروج بخلاصة تتعلق من أي طينة هو حفتر وما الذي يمثله وما المتوقع منه لن تكون عملية صعبة أو معقدة. وحتى لو افترضنا أن الليبيين الذين يقفون معه حاليا يحركهم حرص مشروع على توحيد البلاد والتخلص من فوضى السلاح وعبث المليشيات المتطرفة وضعف حكومة السراج المعترف بها دوليا، فإنهم سيكتشفون سريعا، إذا ما استتبت الأمور لهذا الرجل وهو أمر مستبعد للغاية، أنهم وقعوا ضحية عملية خداع كبرى تشبه ما تعرض لهم المصريون الذين ظنوا أن السيسي هو المخلص من حكم الإخوان ثقيل الظل فوقعوا في ما هو أمر وأدهى.
هل قدر الليبيين أن يمروا من حكم القذافي الرهيب إلى حكم عسكري آخر ينظر إلى شعبه على أنه لا بد أن يحكم بالحديد والنار، وأنه رغم كل ما مر به من ويلات لم ينضج بعد لإدارة شؤون بلده بطريقة ديمقراطية، ولو تدريجية، فالديمقراطية تـُـجرب في النهاية وليست وصفة جاهزة وللكل فيها حق التعلم والخطأ إلى أن تستقر، مع السنوات والدروس المستفادة، نهجَ حكم ومجتمع.
من يتصرف منذ الآن مع جنوده بعقلية «طلقة في رأسه» عند كل تراجع دون أن يفكر حتى في إحالته إلى محكمة عسكرية لمعرفة ملابسات هذا التراجع الذي قد تكون له بالمناسبة وجاهته العسكرية، سيتصرف بنفس هذه العقلية الرعناء مع أبناء شعبه الذين يريد أن يحكمهم، بعيدا عن حكم القانون والمؤسسات والحرص على العدل والشفافية، فضلا عن أن سياسة الطلقة في الرأس هذه، لو طبقت في حرب تشاد التي أسر فيها حفتر، لكانت هذه الطلقة مباشرة بين عينيه هو.
عندما يلتقي مثل هذا التوجه الاستبدادي عند حفتر مع تضخم مرضي للنفس ممزوج بعقد شخصية وسياسية فإن النتائج لن تكون سوى كارثية. شاهدوا فقط الطريقة التي استقبل بها مؤخرا الأمين العام للأمم المتحدة قبل بداية معركته الأخيرة على طرابلس واللهجة التي تحدث بها معه. لم يكتف بأن هذه الأخيرة اتسمت بالتحدي والتهديد، كما نقلت كل المصادر، بل إن طريقة جلوسه مع غوتيرش ووفده لم تبتعد كثيرا عن عجرفة القذافي ونظرته المحلقة في السماء مع أن القذافي كان يستقبل ضيوفه في خيمته الشهيرة وليس من وراء مكتب وشعار النسر الضخم وكأن الرجل قائد جيش أين منه جيوش الناتو الجرارة!!
ستتحطم طموحات حفتر المريضة على مشارف طرابلس التي لن يتمكن من دخولها لأن من يدافع عنها لا يدافع فقط عن عاصمته وأهله فيها وإنما يدافع كي لا تسقط بلاده كلها من جديد تحت وطأة دكتاتورية فردية جديدة مدعومة بكل من لايريد الخير لا للديمقراطية طبعا ولا لليبيين.
المصدر: القدس العربي