“مناخ من انعدام الأمن والفوضى كان يعصف بإسبانيا.
هذا كان ما بررت به انقلابك العسكري، وقلت حينها إن إسبانيا كانت بربرية صرف.
إنك أنت من أتى بالبربرية، تلك التي كانت في عصر ملوك الكاثوليكيين والاستبداد الديني.
فأنا لا اعتقد أن هناك أخيارا وأشرارا، هناك فقط عنف أعمى وضحية مغمورة بالرماد”.
فرناندو أرابال، رسالة إلى الجنرال فرانكو
ترجمة: عمار الأتاسي
لن يتردد الباحث غدا حين يضع حركة اللواء المتقاعد خليفة حفتر في ليبيا تحت مجهر البحث التاريخي في تقييمها كانقلاب عسكري استغرق وقتا طويلا قبل أن ينتهي إلى الفشل، على غير المألوف في الانقلابات العسكرية التي لا تستغرق عادة سوى بضع ساعات بين سيطرة وحدات عسكرية على مؤسسات الدولة وإعلان قائد الانقلاب البيان الأول عبر الإذاعة، من دون تجاهل انقلاب الجنرال فرانكو في ثلاثينات القرن الماضي بإسبانيا حيث تطلب الأمر ثلاث سنوات من الحرب الأهلية قبل أن يحكم فرانكو السيطرة على البلاد والعباد، ولكنه الاستثناء الذي يثبت القاعدة.
اقتحم حفتر المشهد السياسي الليبي بالإعلان عبر قناة العربية في منتصف فبراير 2014 عن قيام القيادة العامة للجيش الليبي بإلغاء المؤتمر الوطني المنتخب وتجميد الإعلان الدستوري مع عدة نقاط إضافية لتسلم السلطة في البلاد، وتفاجأ الجميع بالانقلاب المتلفز الذي لم يصاحبه أي ظهور عسكري لافت في العاصمة، بل كانت الحركة في الشارع وفي مؤسسات السلطة عادية تماما، واعتبر الأمر يومها مجرد فكاهة طريفة.
تبين فيما بعد أن حفتر كان ينتظر فور ظهوره على الشاشة تحرك بعض المجموعات المسلحة لمحاصرة مقر المؤتمر الوطني ورئاسة الحكومة وبعض المرافق الأخرى مع تدفق الجماهير الغفيرة إلى ميدان الشهداء تأييدا وفرحا ودعما، بالتزامن مع تغطية إعلامية من تلفزيونات وإذاعات للحراك العسكري والشعبي تقدم للمشاهدين الإيحاء المطلوب بنجاح الانقلاب، لتتوالى فيما بعد بيانات التأييد والاعتراف محليا ودوليا، ولكن كل الحسابات كانت خاطئة.
المجموعات التي انتظر حفتر تحركها أعادت تقييم الموقف وأخذت في الاعتبار احتمال تحرك مجموعات مسلحة قوية مساندة للمؤتمر الوطني والحكومة للتصدي للانقلاب ومن ثم فالأمر سيكون بالغ الخطورة وسيفشل الانقلاب.
وتجدر الإشارة إلى أن تصرف حفتر بهذه الخفة يعود إلى السهولة التي أنجز بها القذافي انقلابه عام 1969، أو كما قال الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين متهكما “عن أي ثورة يتحدث القذافي، السلطة في ليبيا كانت مرمية في الشارع تنتظر من يلتقطها”، وكان حفتر أحد ضباط انقلاب القذافي، ويبدو أنه ظن أن الأمر سيمضي بنفس السهولة.
لم يتحرك أحد سوى الحكومة التي أصدرت الأوامر للجهات الأمنية بالقبض على المدعو خليفة حفتر الذي غادر طرابلس على وجه السرعة، بعد تيقنه من فشل مغامرته وجدية الحكومة في طلبه، سالكا طرقا صحراوية وعرة وصل الانقلابي المطارد إلى بنغازي ليستأنف من هناك مشروعه في الوصول إلى سدة الحكم.
في قواعده الجديدة، مسنودا بقاعدة شعبية عريضة تتوق إلى إنهاء مظاهر الفوضى المسلحة وموجات الاغتيال، وغطاء سياسي وفره البرلمان، جمع حفتر بعض الضباط والجنود ورفع راية مكافحة الحرب على الإرهاب، وتحصل على دعم دولي وإقليمي مكنه من إحكام سيطرته على مدن الشرق والموانئ النفطية ثم تحرك نحو الجنوب بعد عقد تحالفات مع مكونات قبلية وعسكرية اشترى ولاءها بالمال، وضمن لنفسه موقعا بارزا في أي تسوية سياسية، ومنحته فرنسا شرعية دولية بوضعه في خانة الند الوحيد لرئيس المجلس الرئاسي، لكنه لم يكن يعول على الحلول السياسية وعرقل اتفاق الصخيرات السياسي، وفشلت كل محاولات احتوائه ضمن أي تسوية سياسية.
ومن جديد يقع حفتر في فخ الحسابات الخاطئة بهجومه العسكري والمفاجئ على طرابلس، مرة أخرى تخذله المجموعات المسلحة التي أشيع أنها ستنضم له فور وصول قواته إلى مشارف العاصمة، وتحجم عن الخروج مجموعات من المدنيين كان ينتظر أن تتدفق إلى ميدان الشهداء بقلب طرابلس حاملة صوره وشعارات التأييد لـ ”جيشه الوطني”، وتقع طلائع قواته في الأسر بأعداد كبيرة، وتتحرك كتائب مصراتة والزنتان والزاوية ومناطق أخرى لصد الهجوم، وينقلب الحال من هجوم خاطف يحكم فيه حفتر السيطرة على العاصمة خلال يومين أو ثلاثة إلى حرب طويلة نتائجها مفتوحة على عدة احتمالات ماعدا احتمال انتصاره فيها، بالنظر إلى قوة وصلابة القوات المدافعة عن طرابلس وكفاءتها القتالية العالية مقابل ضعف قواته وطول خطوط إمدادها، بالإضافة إلى خسارته مؤيديه في طرابلس الذين نظروا إليه كمخلص محتمل يمكنه أن يعيد ضبط البلاد والسيطرة عليها، بعدما وقفوا على وحشية قواته وممارساتها البعيدة عن أي انضباط.
الذرائع التي روجها إعلامه وأنصاره لم تكن مقنعة، فالعاصمة لم تكن أبدا تحت سيطرة مجموعات إرهابية، وإنهاء هيمنة المجموعات المسلحة بها يستحيل أن يتحقق بالحرب، كما أن البلاد كانت على موعد مع المؤتمر الوطني الجامع الذي كان منتظرا أن يقع التوافق فيه على خارطة طريق نحو الانتخابات، لم يدرك حفتر وأنصاره أن مبرارات الحرب في بنغازي ودرنة غير مجدية في طرابلس، واتهام قوات البنيان المرصوص التي استأصلت تنظيم داعش من سرت بالإرهاب سيكون مثيرا للضحك.
والحاصل أن غالبية الليبيين باتت تدرك أن مثير الفوضى في ليبيا هو خليفة حفتر وأوهامه في حكم البلاد بنفس القواعد والآليات التي حكم بها سلفه القذافي، وعندما تتكشف الحقائق سنعرف أن الجرائم المروعة غير المعهودة في التاريخ الليبي والتي تعود إلى العصور البربرية هو من أوجدها بموجات العنف التي أثارها في البلاد.
هزيمة حفتر وتناثر زبد أوهامه على أسوار طرابلس بات وشيكا؛ مما قد يدفعه إلى الهروب للأمام بفتح جبهات قتال جديدة أو تعطيل إنتاج النفط، ولن ينجيه من هذا المصير المحتوم إلا تدخل داعميه بشكل سافر لإنقاذه، وهذا سيكون مكلفا سياسيا خاصة لفرنسا، وسيدفع كل القوى المنخرطة في الصراع إلى التدخل لإعادة التوازن وحفظ المصالح والتحالفات مما قد يحيل الصراع إلى حرب أهلية مكتملة الأركان تزيد من التمزق والمعاناة وتحرق ما تبقى من نسيج اجتماعي مهترئ، وتضع البلاد أمام خيارات مؤلمة، ولكنها أبدا لن تحقق حلم حفتر في حكم البلاد.
المصدر: رأى اليوم