Menu
in

ما ينبغي أن يقال في ذكرى ثورة فبراير



ستظل فبراير دائما في نظري حادثا استثنائيا عفويا أوجدها شباب لا أجندات أو مخططات تدفعهم وكان نتاج فعلهم المجرد من النوايا الخبيثة تغييرا ما كان ليحدث لولا انتفاضتهم.

مسؤولية الاستبداد

أما النتائج التي أعقبت فورة الشباب فيتحملها بالدرجة الأولى رأس النظام الذي لم يقدر هذه الهبَّة وتعامل معها بالجبروت والتعالي بداية بالتشخيص المغلوط للدوافع وتقدير الموقف المتشنج بوصفهم بأقذع الأوصاف “الجرذان”، والتهديد بمطاردتهم “زنقة زنقة”، ومرورا بمجابهتهم بأصحاب القبعات الزُّرق ووصولا إلى إرسال الأرتال المدججة بالأسلحة الثقيلة لسحقهم.

لم يفكر “القائد” بقليل من العقلانية ويقول: لقد حكمت ما يكفي وزيادة، وحرصا على منع الانزلاق إلى دهليز الفوضى والدماء سأتنحى بسلاسة وأسمح بانتقال سلمي للسلطة كما وقع في مصر وتونس، فلا سلاح يوزع ولا سجناء كثرا يفرج عنهم، ولا تعبئة جهوية وقبلية أججت الشقاق، ولو وقع هذا لما كان للأطراف الدولية مبرر للتدخل، ولكان الحال مختلفا تماما عما نراه اليوم.

لكنه اندفع بفعل نزوعه المتعالي وسلوكه العنيف لخيار الضرب بقوة، ومستمرا في حالة الإنكار وشاهد ذلك الرد على المقربين منه جدا بعد طلبهم منه التسليم بأنه ليس رئيسا ولا يحكم والكلمة النهائية للشعب!!!!

يتداول كثيرون حوارا بين بورقيبة والقذافي مفاده دعوة الأول القذافي إلى الاهتمام بالتعليم ورد الأخير بخوفه من أن يثور عليه شعبه إذا تسلحوا بالعلم وأن بورقيبة علق بقوله: أن يثور عليك شعبا متعلما أفضل من أن يثور عليك شعبا جاهلا.


أما المسؤول الثاني فهو الطمع والجشع والجهل والغباء والعنف والإقصاء الذي هيمن على ممارسات من انحازوا للثورة، وهي بالأساس موروثات سنين تزييف الوعي والتفريغ من أي درجة من النضج الفكري الرصين واستبدالها بحشو ثوري جماهيري لا منطق أو مضمون منتجا له.

وأعرج في هذه السانحة على المنطق الأعوج في مقاربة المظاهر السلبية الكبيرة والخطيرة التي اقترنت بتفجر الثورة، وردود الرافضين لها على تلك المظاهر وتقييمها بالعهد السابق.

أحتاج أن أقدم لموضوع اليوم من خلال التوضيح بأن غايتي من مناقشته ليس التشفي أو تسجيل نقاط ضد الخصم، فأنا أعتبر هذا النقاش يصب في صلب احتواء أزمة العقل الليبي ويخدم الوعي المطلوب للخروج من المأزق والانتقال إلى الاستقرار.

مقارنة لا تستقيم

كثير من أنصار النظام السابق بمختلف مستوياتهم يعقدون المقارنة بين اليوم والأمس للتأكيد على كارثية فبراير وخيرية سبتمبر، ومن العبارات المستخدمة هي القول بأنه في مقابل الفوضى الأمنية بعد فبراير فإن عهد سبتمبر “أمن وأمان”.

وأقول إن هذه إحدى أهم مشاكلنا، وهي أن فهمنا مرتبك لمفهوم الأمن والأمان، فمع سياسة “قطع الرؤوس” بلا تردد وتكميم الأفواه بالتعذيب والترهيب يحدث ما يتصوره البعض أمناً، غير أن هذا أمن مؤقت، والدليل ما وقع في فبراير وأحداث عديدة قبلها من أهمها حادثة السفارة الإيطالية في بنغازي عام 2006، والتي استلهم أنصار فبراير روح الثورة وشعارها منها.

ما فعله القذافي وغيره من المستبدين هو ترحيل الأزمة وإطالة عمرها باستخدام الحديد والنار، ولا يدرون أنهم يراكمون بركان الغضب لينفجر، فالأمن الحقيقي هو الأمن المستدام أي الدائم، عبر مقوماته الشاملة.

شروط الأمن والاستقرار

الأمن المستدام يحصل ببناء مجتمع متعلم واع ناضج محترم حريص على وطنه وراق في تعامله مشارك بشكل حقيقي في القرار، مسؤول ليس فقط عن حماية المكتسبات، بل وتنميتها بشكل مستمر، لتكون هي الحصن الحصين والسد الأول أمام أي حدث أو فعل يهدف إلى تقويض الاستقرار.

أن نعتقد أن الشباب المسلح الهائج المنفلت المخرب الذي أصبح المسؤول الأول عن الانفلات الأمني وحالة الفوضى ولدوا متخلفين ودمويين فهو الغباء بعينه، وحالة الإنكار هذه لن توصلنا إلى بر الأمان.

محاضن التربية المجتمعية هي التعليم والثقافة والإعلام، وكلما اتسمت بالاستقرار والموضوعية والعمق في المضمون والرسالية في الوجهة كان الجيل أكثر تأهيلا معرفيا وأشد نضجا ووعيا ومسؤولية، والعكس هو الصحيح.

إن عدم الاستقرار والتخبط في المناهج وتثويرها منذ سبعينيات القرن الماضي وخلخلة العملية التعليمية من خلال تفريغ منهجها من المحتوى البناء والتقليل من شأن المعلمين، ثم تحويل الحركة الثقافية إلى تابعة للمنهج الثوري وتحويل الإعلام إلى أداة سياسية لإطالة عمر النظام وتمرير توجهاته مسؤولة بشكل مباشر عن الفوضى التي نراها والتخلف الذي يحيط بنا من كل جانب.

ارجعوا إلى نهج الزحف الثوري وتثوير المناهج والمؤسسات التعليمية واقرأوا عن مسميات الطالب الثوري والمعلم الثوري…الخ، فقد كانت خطا تمرديا لا يحكمه ضابط أو قيد على المنظومة الاعتيادية التي هي في نظر النظام السابق رجعية ينبغي استئصالها بل سحقها.

هدم بيوت المعارضين وتشريد عوائلهم ليست من اختراع فبراير، السحل والقتل بلا رحمة أو شفقة ليست وليدة العام 2011م، والنهب والسرقة التي تفشت لا يمكن أن تكون سلوكيات جديدة علت على أخلاق وقيم غرسها النظام السابق في المجتمع، بل هي مختبئة في اللاوعي وتخزنت عبر الخطاب والممارسة العنيفة والمشوبة بالفساد طوال عقود.

يتداول كثيرون حوارا بين بورقيبة والقذافي مفاده دعوة الأول القذافي إلى الاهتمام بالتعليم ورد الأخير بخوفه من أن يثور عليه شعبه إذا تسلحوا بالعلم وأن بورقيبة علق بقوله: أن يثور عليك شعب متعلم أفضل من أن يثور عليك شعب جاهل.

وبغض النظر عن صحة الواقعة، إلا أن مضمونها صحيح، فتونس ومصر أكثر تعليما وأكثر مؤسساتية لذا فإن تعاطيهم مع ثورتهم كان أكثر نضجا، في حين كان تعاملنا مع الثورة منحرفا لأننا متأثرون بما عشش في عقولنا وورثناه في مراحل تطورنا وتنشئتنا.

خاتمتي مهمة وموجهة لأنصار الفاتح من سبتمبر وهي أننا لم ننجر وراء إفرازات فبراير بحلوها ومرها وخطئها وصوابها، وكنا ومازلنا ننتقد بل نعارض أي ممارسة غير مقبولة منطقيا أو إنسانيا أو مصادمة للبناء المؤسسي والإدارة العامة والإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بينما أنتم انحزتم لمقاربة القذافي بل كنتم جزءا من الممارسات الخاطئة بل الكارثية، ولو لعبتم دور المعارض والمقوم لما وقع ما وقع، وهذا فارق جوهري ينبغي أن تقفوا عليه.

المصدر : موقع عربي 21





أُترك رد

كُتب بواسطة raed_admin

Exit mobile version