Menu
in

ثورة فبراير.. تعثّرٌ يصحّح المسار


يتباين كثير من الليبيين اليوم في نظرتهم إلى ثورة فبراير بعد مرور ثماني سنوات على انطلاقتها بين من يراها حدثًا تاريخيًّا هامًّا أزاح عنهم ظلمة الاستبداد، وبين من ينظر إليها كنكبة سوداء لن ينقشع سوادها إلا بعودة الليبيين إلى زمن ما قبل الثورة.

وبتبسيط شديد وسطحية أشد، يتخذ القائلون بالقول الثاني من الأوضاع الحالية المتأزمة دليلا على صدق قولهم وقوة حجتهم، متعامين عن كثير من الحقائق، ومتجاهلين سنن التاريخ في أسباب سقوط الدول ومحددات قيامها.

وفي الجملة نستطيع القول أن الدولة الليبية وحكامها قد توفرت فيهم كل الأسباب التي تؤدي إلى السقوط عام 2011، كانتشار الظلم وتفشي الفساد واتساع عدد أفراد العائلة الحاكمة المتحكمة جنبًا إلى جنب مع ازدياد الصراع بينهم، ما أوصل البلاد آنذاك إلى مرحلة “الشيخوخة” كما عبّر ابن خلدون، وهو الذي أذن بهلاكها، وقيام الدولة بعد سقوطها لا يمكن إلا بانتفاء أسباب هذا السقوط وهو ما لم يتوفر في ليبيا حتى الآن، ما جعلها تتعثر عاجزة عن السير بنهج سليم في طريق البناء.

إضافة إلى هذه الأسباب العامة؛ فإن عدم اتفاق النخب الثائرة على أهداف الثورة يُعدّ سببا آخر من أسباب هذا التعثر، فقد رأينا من يطالب بدكتاتور عادل، ومن يطالب بدولة مدنية وديمقراطية مفصلة على مقاسه، وآخر يطالب بدولة الإسلام ولا يطبق من الإسلام إلا ما ينسجم مع بعض فرعيات الشريعة كما يقدرها، وحتى من رأيناه يطالب بالدولة المدنية والديمقراطية التي تستوعب الجميع، وتلبي رغبات الليبيين في تحقيق الدولة المنشودة؛ سقط في أول اختبار بعد دخوله حيّز الممارسة، وتنصّل من كل ما طالب به لأجل مصالح ضيقة، هي أبعد ما تكون عن مصالح الوطن.

جغرافية ليبيا، وأزماتها الخارجية التي ورثتها عن النظام السابق، سبب مهم من أسباب التعثر أيضا، لم تنظر أغلب الدول الإقليمية والغربية إلى ليبيا كدولة تملك شعبًا وأرضًا وحدودًا، ولم تبذل الجهود في مساعدتها على القيام بل نظرت إليها نظرة الجشع وتتحين كل فرصة لالتقام نصيبها من الكعكة، بل إن بعض الدول قد سعت بكل قواها لتخريب مسار البناء خوفا على مصالحها.

لم تكن هذه التدخلات الخارجية السلبية لتنجح لولا انحدار الوعي المجتمعي إلى أدنى مستوياته، فغدا بين ليلة وضحاها مشبعا بثقافة الاستبداد، وصار من كان يذيق الليبيين ويلات العذاب في السجون هو الأجدر بقيادة أمن ليبيا، ومن سرق ميزانيات البلاد هو الأكفأ في إدارة وزارات التنمية والإعمار، وأضحى من كانت البلاد في عهده تحتل آخر التراتيب العالمية وحتى العربية في البنية التحتية والاقتصاد، أضحى رجل دولة ينبغي أن ينصب وزيرا أو رئيسا أو مستشارا، والحقيقة تقول حسب الإحصائيات العالمية، أن ليبيا لم تكن دولة حقيقية حتى يكون لها رجال.

كما أن من الدواهي الكوارث التي عرقلت مسيرة البناء هو استغلال من أطلق على نفسه ثائرا لدماء الشهداء، يتحدث ويسرق ويفسد ويعرقل باسمهم، بل إن بعضا منهم طالب بأن يجلس على كرسي الحكم لهذا السبب، صارفًا نظره عن حقيقة أن الشهداء لم يبذلوا أنفسهم من أجل الحكم أو الاستئثار بمال أو بجاه وإلا لما كانوا شهداء، فالشهيد هو من يضحى بنفسه لإقامة دولة الحق والعدل كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: “سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله”، ودولة الحق والعدل لا تنافي الدولة المدنية الديمقراطية بلغة هذا العصر، بل هي الأقرب إليها، لأن التأمل في تعاليم الإسلام ومقاصده وتجربة تطبيقه في عصر النبوءة والراشدين لن نجد ما يمنع إقامة نظام ديمقراطي علاجا لآفة الدكتاتورية التي اكتوى بنارها معظم تاريخه، ولذلك يجب أن يحذر الليبيون من كل من يتصدر مخوفا لهم من الديمقراطية باسم الدين، أو القبيلة أو يتخذ من الإرهاب شماعة لذلك، حتى لا يوأد مشروع التغيير المنشود وتختزل الثورة في صرخة للناس بعد كبت طويل دون أن تحقق المراد.

ختاما، لا تقاس نتائج التحولات الكبرى في الدول والمجتمعات بالسنوات، وإنما تحتاج لعقود، ولا شك أن ثورة فبراير هو تحول كبير في تاريخ ليبيا بل ربما يكون الأكبر، وستحقق نتائجها سريعا ما وعى الليبيون مخاطر الاستبداد وتمسكوا بقيمة الحرية التي ضحى من أجلها الآباء والأجداد بالمهج والأرواح.

المصدر : موقع ليبيا الخبر

أُترك رد

كُتب بواسطة raed_admin

Exit mobile version