تُصنف المجتمعات المتخلفة، والعالم الإسلامي والدول العربية من بينها، بأنها تعيش في الماضي ولديها هوس بتاريخها، خاصة الجوانب الإيجابية منه، أو ما تعتبره إيجابيا، على حساب الاهتمام بحاضرها ومستقبلها. ويشكل التاريخ مادة رئيسية في تقديم مكوناتها السياسية والاجتماعية لنفسها، وفي تشكيل موقفها من الآخر.
في حالات كثيرة يقع استدعاء التاريخ والعيش في الماضي بانغماس والحنين إليه إلى درجة الشلل
وتسهم عوامل عدة في تكريس هذه الظاهرة، ومن بين هذه العوامل وقوعها تحت الظلم والقهر وسلب الحقوق بمختلف أنواعها والحرمان مما هو جزء من كينونتها، فتلك تخلق مشكلة أثرها يتعدى المظلوم إلى الواقع الأرحب، وتكون سببا في الارتماء في أحضان الماضي بشكل سلبي.
وفي حالات كثيرة يقع استدعاء التاريخ والعيش في الماضي بانغماس والحنين إليه إلى درجة الشلل، فكثير منا، نحن الليبيون، ليس فقط يسكنه التاريخ بل يسكن فيه، فيكون في الحاضر بجسده، ويعيش في الماضي ذهنيا ونفسيا ووجدانيا.
أزمة استدعاء التاريخ
الدراسات تكشف أن استدعاء التاريخ والحنين للماضي غالبا ما يقع عندما يكون هناك مشكلة في إدراك الواقع والتعامل معه، فالصدمة والعجز يدفعان للرجوع إلى الوراء والبحث عما يريح العقل والضمير في ثنايا الماضي، فشر الماضي قليل بالنظر إلى الحاضر عند من يفشلون في مواجهة تحديات الحاضر.
والأخطر في كل هذا هو استخدام الماضي بشكل متعسف لإثبات الوجود وفرض الإرادة ومقارعة الخصوم والمغالاة في ذلك، ويقع في أثناء ذلك ثلاث مثالب هي:
أ ـ الانعزال عن الواقع والغيبوبة عن المستقبل في التقييم والحكم.
ب ـ الانتقاء من خلال تضخيم الإيجابيات والتغافل عن السلبيات.
ت ـ التمجيد للذات وإقصاء الآخر بالتوظيف السلبي النصوص والوقائع التاريخية.
فتجد، على سبيل المثال، السبتمبري (المؤيد للفاتح من أيلول / سبتمبر) وهو يقيم ويحكم على إفرازات ثورة فبراير يعود إلى العقود الماضية ويبحث بانتقائية عما يعتبره شيئا يفخر به أمام الواقع الراهن بعد الثورة، ويتغافل تماما عن أحداث ووقائع شبيهة وشديدة الصلة بما يقع اليوم من كوارث.
الردود على السبتمبري تعود أيضا إلى الماضي باستخدام نصوص ووقائع من العهد الملكي وكيف أنه خير من نظام القذافي، وفي هذا صدق إلا إنه يقع بانتقائية وبغرض مقارعة الخصم وليس للتوعية ومحاولة تشخيص الواقع والبحث عن مقاربة مستقبلية للخروج من الأزمة.
كثيرون يقعون في الشرك، فالإسلامي المغالي في التزامه بالدين يقع في أخطاء التعامل مع الإرث والتراث بدرجة تزيد في تأزيم الحاضر وتعطل التفكير الجماعي في المستقبل، وكذا المتعصب الجهوي والقبلي والمعتز بعرقه الأمازيغي، يقع كثير منهم في معضلة التعامل السلبي مع التاريخ ليكون النتاج مزيدا من النزاع والصراع والانقسام السياسي والصدع الاجتماعي.
وعند الاجتهاد في تحديد الموقف من الآخر تجد التلبس بالماضي بطريقة خاطئة مدعاة لمحاسبة شخوص الواقع ومن يمثلونه وكأنهم تسبّبوا وحدهم في الإخفاقات، وتبرئة الظهير الديني أو العرقي أو الجهوي أو القبلي من أخطاء الماضي ومآسي الحاضر.
المطلوب لتجاوز التعاطي السلبي مع التاريخ
1 ـ التركيز على منظومة القيم والتصورات بالنسبة للإنسان والمجموع الذي يتحرك فيه، فكلما كانت المنظومة متوازنة وتنضبط فيها العلاقات والأدوار بين الإنسان ومحيطه كلما كان التعامل مع الماضي واستدعاء التاريخ أقرب للإيجابية ويخدم الانتقال والتطور، والعكس هو الصحيح.
2 ـ التقييم الموضوعي للتاريخ والتجرد في الحكم عليه، فليس كل الماضي سبب فخر، وليس كل ما تم العمل به في الماضي صالح للأخذ به اليوم ويؤتي نفس الثمار، خاصة اذا كان مسار التطور طبيعيا ومطردا.
3 ـ التوافق على رؤية مستقبلية مثلى للتحول والانتقال وفهم التراتبية الصحيحة في مسار الانتقال والتغيير لتكون ضمانا لحقوق الجميع واستجابة صحيحة لمطالبهم العادلة، فكلما أشرق المستقبل أمامنا واتضحت معالمه وشكلت مشتركا لليبيين جميعا كلما تراجع تأثير الاستدعاء السلبي للتاريخ.
4 ـ التنشئة المشوبة بالتعصب المبني على تمييز له علاقة بالتاريخ خطيرة بل مدمرة، ومثاله السيئ تلك الأم التي تظهر في مقطع مرئي وهي تصف ابنها، الذي لم يبلغ العام من عمره، بالمصراتي فيبكي وتنادية بالبرقاوي فيبتهج.
5 ـ معالجة الخلافات والنزاعات الراهنة والتي تضرب جذورها في أعماق التاريخ، وعدم قصر مجابهتها على الآثار الراهنة، فما لم يقع التنقيب عن الأسباب القديمة ومعالجتها يظل النزاع قابلا للتفجر.
6 ـ الاتفاق على إدانة ما وقع من أعمال وقت النزاع في القديم والحديث، والاعتراف بالخطـأ والاعتذار عنه وجعل النزاع شيئا مستهجنا من خلال تخليد ذكرى آثاره، وتمجيد الصلح ونتائجه لتتربى على ذلك الأجيال وتجنح للاستدعاء الإيجابي للتاريخ.
المصدر : موقع عربي 21