فاجأ البرلمان الليبي الجميع بمساره الجديد، لا يجادل في ذلك إلا معاند، ولقد عبر عن ذلك الخصوم في المجلس الأعلى للدولة بالقول إنهم مشدوهون بالتغير في موقف أعضائه وبالتسارع في وتيرة التقارب والعجلة في طي المسافات باتجاه التوافق والذي كان قبل أسابيع قليلة صعب المنال.
توافق المتنازعين
فمنذ مطلع تشرين الأول (أكتوبر) الماضي والبرلمان في حالة تناغم بين أغلب أعضائه، والمعارضون تحت قبته مجردون من أدوات التعطيل، وكل جلسة تسفر عن موقف أو قرار يسابق الزمن ويزيل العقبات أمام التسوية، فلقد عبر برلماني في لقاء تلفزيوني مؤخرا بأنهم انتقلوا من التعنت بحجة عدم شرعية المجلس الرئاسي والمجلس الأعلى للدولة، والتمترس خلف رفض المادة الثامنة في اتفاق الصخيرات ليصبح القرار هو الوفاق بلا شروط.
من المفترض أن يقابل هذا التحول الكبير بالسرور، فتوافق المتنازعين يعني الإستقرار السياسي والأمني والإنتعاش الإقتصادي، والصلح الإجتماعي، وهذه غايات كبرى ينشدها الجميع، غير أن النقلة تتطلب تفسيرا لمعرفة ما إذا كان ما وقع سياسة ثابتة واتجاها لا حياد عنه، أم مجرد تكتيك في مواجهة ضغوط البعثة والعواصف التي تهب بين الفينة والأخرى من الشمال.
يتفق أغلب المراقبين على أن التصلب في مواقف البرلمان، والذي كان من أبرز أسباب منع التوافق، اقترن بالموقف الداعم للجيش ولقائده خليفة حفتر، فلقد كان إلغاء المادة الثامنة في الإتفاق السياسي مطلبا لا يقبل المساومة، وكان هذا الموقف من أهم أوجه الدعم التي حظي بها حفتر في تنقله من درجة إلى أخرى باتجاه تحقيق طموحه السياسي.
تجاوز عقدة المادة الثامنة
ما نلاحظه اليوم من خلال تتبع التطور الكبير والتحول المهم في مسار البرلمان أن مكانة الجيش ومستقبل قائده العام لم يعد محور النقاش ولا مرتكز التفاوض، وهو ما صرح به النائب الشيباني بقوله إن الجيش لم يعد يحتاج لتعنت البرلمان لتصبح المادة الثامنة خلف ظهورهم ويقبلون بتقارب لا يجعلها في الصدر منه.
كشفت العديد من الأحداث أن رئيس البرلمان يمثل حجر زاوية في تحريك المجلس التشريعي والوصول إلى قرارات توافقية، فالرئيس نجح في تعطيل البرلمان ومنعه من عقد جلسات بنصاب تتعلق ببلورة موقف إيجابي، وكان دعم خليفة حفتر حاضرا في كل مواقف عقيلة صالح.
غير أن هناك ما يشير إلى تبدل في موقف رئيس البرلمان، وهناك ما يؤكد على وقوع خلاف بينه وبين خليفة حفتر، وهو ما دعا الأخير إلى التعبير بشكل مباشر عن خيبة الأمل، وعدم الإطمئنان من جهة البرلمان ورئيسه، ومن المؤكد أنه يشير إلى ما هو واقع ومشاهد اليوم.
كلام حفتر المعبر عن القلق تجاه البرلمان ورئيسه جاء في حديثه مع أعيان وممثلين لعدد من القبائل في بنغازي وبعض المدن القريبة منها، وورد في حديثه ما يفهم منه تحذير لعقيلة صالح من مغبة الإستمرار في مواقفه التي قال حفتر أنها غير مطمئنة.
في ذلك الاجتماع وصف حفتر مسودة الدستور بـ “الكارثية”، وعبر بصراحة عن رفضها، وها هو البرلمان يغير من موقفه المتماهي مع موقف حفتر ليقر القانون الخاص بالإستفتاء على المسودة.
ذهب عقيلة صالح إلى باليرمو، والتقى بالسراج والمشري، وصرح في لقاء خاص له بتأييده لمبادرة الوفاق بين المجلسين، وجاءت جلسة البرلمان الأخيرة التي ضمنت المبادرة والاتفاق في الإعلان الدستوري لتدشن مرحلة جديدة، وما كان ذلك ليقع لولا إذن صالح، وما كان ذلك ليرضي حفتر.
لا يمكن أن يتحول عقيلة صالح ومن خلفه عدد مهم من أعضاء البرلمان لولا أنهم وجدوا دعما إقليميا ودوليا،
تصريح خليفة حفتر عن رفض الأجسام السياسية القائمة، ومحاولته تخطي عقيلة صالح وفايز السراج بإعلان نفسه قائدا أعلى للجيش، إنما تأتي في إطار الخلاف مع الحليف السياسي السابق، فمن منح حفتر منصبه وأصبغ عليه الألقاب العسكرية الكبيرة هو صالح، وتخطيه يعني أن حفتر ساخط عليه ويناور لتجاوزه.
لا يمكن أن يتحول عقيلة صالح ومن خلفه عدد مهم من أعضاء البرلمان لولا أنهم وجدوا دعما إقليميا ودوليا، وكنا قد أشرنا في مناسبات سابقة إلى الدفع بالسفيرة السابقة للولايات المتحدة في قلب الأزمة الليبية عبر تعيينها نائبا لرئيس البعثة الأممية إن هذا يشير إلى وقوع تحول في الموقف الدولي قد يسهم في إزالة الكثير من العوائق أمام التقارب السياسي.
غير أن ما وقع لا يعني بالقطع التخلي عن حفتر، والمقصود ربما لجم طموحه في الحكم والهيمنة والسيطرة على مقدرات البلاد، ومن الواضح أن صالح طامح مثله، ولم يتبق إلا أن يقبل حفتر بالتسوية عبر ضغط من قبل حلفائه.
تظل أمام حفتر فرصه لتحقيق غايته الكبرى من خلال الإنتخابات، فحتى اليوم لا يوجد منافس حقيقي له، ولن يسقط حفتر في سباق الانتخابات إلا عبر التوافق على منافس له، على أن يكون توافقا عريضا يجمع بين تجمعات سياسية واجتماعية في الشرق والغرب.
المصدر: عربي21