في ظل حالة الفوضى العامة والانقسام الحاد الذي تشهده ليبيا عموماً، وحالة الاقتتال والاشتباك الذي تعيشه العاصمة هذه الأيام، ارتفعت وتيرة الدعوات المستعجلة للانتخابات كحل للأزمة طويلة الأمد التي مزّقت الوطن وأرهقت المواطن.
يتفق الجميع على أن إجراء الانتخابات هو المخرج من المأزق السياسي، وهو السبيل لإعادة الاستقرار في مراكز السلطة المنقسمة، والمتنازع على شرعيتها، والعاجزة عن الأداء المثمر والبنّاء، ولكن ما يتغافل عنه الكثير أن إجراء انتخابات دون تهيئة الظروف والمناخ الملائم لها لن يُنتج إلا حلقة جديدة في الصراع الذي لم يعُد الوطن أو المواطن قادراً على تحمل تكلفته، فالإصرار على الذهاب إلى انتخابات دون اتفاق حقيقي مضمون دولياً وبمرجعية دستورية واضحة، ودون إيجاد حالة من الاستقرار السياسي والاقتصادي في حدّه الأدنى هو محاولة لتصفية الخصوم السياسيين وبناء دكتاتورية الفرد أو النخبة، ولن ينتج أي تقدم أو رفاه.
كثيرون على الساحة السياسية اليوم يطرحون حلولا للوصول إلى الانتخابات، خاصة بعدما جاء في إحاطة المبعوث الأممي غسان سلامة من البحث عن وسائل ابتكارية للوصول إلى الانتخابات، ولكن السؤال المهم الذي يجب أن يطرح اليوم هو: هل الانتخابات وحدها قادرة على حل الأزمة في ليبيا؟
إن الأزمة في ليبيا أعمق وأخطر من أن تُحلّ بالانتخابات فقط، أو بإقرار الدستور وإجراء الانتخابات فقط، صحيح أن إقرار الدستور وإجراء الانتخابات العامة أمران مهمّان في سبيل حل الأزمة، وهما يمثلان مطهّراً للجرح الغائر والملتهب بطفيليات السياسة التي فاقمت تورمات الفساد في جسد الوطن وعطلت مراكز السلطة فيه، إنّ إقرار مشروع الدستور أمر لازم لبدء عملية سياسية مستقرّة وواضحة المعالم والحدود، وسيحدّ من عقلية المغالبة والإقصاء، ويؤسس لقاعدة من الوعي السياسي، أما حصر حل المشكلة في الانتخابات أو إحالة المشاكل المتراكمة على من ستأتي بهم الانتخابات، فهو هروب للأمام، وإطالة لأمد الأزمة، وعقد آمال على المجهول، ويبقى وعي السياسي والمواطن هو الضامن الأساسي للاستقرار، وضمان سيادة القانون والدستور.
يتحجج أحدهم بأن المواطن اليوم سئم هذه الأجسام العاجزة وهؤلاء السياسيين الفاشلين، وآن له أن يقول كلمته ويختار، نعم صدق، ولكن قال نصف الحقيقة فقط، فالمواطن اليوم أيضاً مهموم بتحصيل حاجاته الأساسية، ومنهك في الصفوف الطويلة في المصارف ومحطات البنزين وأمام مراكز توزيع الغاز، وتحت هذا الضغط سيقبل بأي حلّ يعرض عليه يرى فيه بصيص أمل يخفف عنه وطء معاناته التي أرهقته، وهذه الحالة التي يعيشها المواطن والتي تجعل من خياراته محدودة هي ما يدفع أمثال النايض وحفتر للإصرار على إجراء الانتخابات في أقرب وقت، فمثل هذه الظروف تجعل من حظوظهم أكبر في الفوز -حسب ظنهم-، وإن كان حفتر –كما في تصريحه الأخير- لن يقبل الخسارة بل سيجهض الانتخابات ما لم تكن في صالحه؛ لأنها حينئذٍ غير نزيهة، وهذا إعلان صريح من الرجل أنه مستمر في نهج الانقلاب العسكري الذي لا يعرف غيره منذ 1969.
إن أزمتنا العميقة لم تُبقِ لنا إلا جسوراً هشّةً للوصول إلى برّ الاستقرار والديمومة، وهذه الجسور لا بدّ أن تمرّ من خلال ما يتوفر اليوم في الساحة السياسية ممثلةً في الأجسام الحالية، ومجال المناورة فيها ضيّق جداً يمكن أن يكون بتعديل السلطة التنفيذية وتوحيدها، لخلق حالة من الاستقرار لضمان عملية انتخابية يعترف بمخرجاتها الجميع، وكل مغامرة بمحاولة القفز على هذا الواقع الهشّ قد ينزلق بنا في مهاوٍ من الفوضى لا نهاية لها.
أخيراً فإن عمق أزمتنا وما نعانيه اليوم هو نتاج اللاواقعية في السلوك السياسي بشكل عام، واعتقاد كل طرف مقدرته على الحسم، وأنه الوحيد القادر على حل الأزمات، مع أن هذا السلوك هو أهم أسباب الأزمة، وأن أول الحلول هو قبول المشاركة السياسية من الجميع، والالتزام بآليات التنافس السياسي بعيدا عن المغالبة والإقصاء وتصفية الخصوم.
المصدر: موقع ليبيا الخبر