لقد مرت أحداث على مسرح الأحداث السياسية، وكأنها درامتيك لمشهد مكرر، ولكن الذي يجب لفت الانتباه إليه حقيقة هو وجود الرغبة الكامنة، بل والصادقة في التقارب بين الليبيين، وأن تساؤلا يطرق الضمير المجتمعي الليبي حول لا منطقية ما يجرى من احتراب وتصاعد خطاب الكراهية الدينية والاجتماعية والسياسية، كلا ليس بين الليبيين ما يوجب الاستمرار في مسار التجاذب على أي قاعدة كانت، لا شرعية ولا سياسية ولا وطنية ولا أمنية ولا اجتماعية، ليس هناك أي أساس لما يجرى ويستمر في الجريان اليوم في ساقية الرأي العام الليبي.
؛؛؛
هناك جملة من عناصر التوتر، بعضها معطيات محلية وأخرى إقليمية، ولعل مقالات سابقة تناولت بالنقد خطاب الكراهية سواء بحجة الدين صادر عن دار الإفتاء ومن لف لها وشيعتها من تيارات الغلو الديني والتشدد ومنصاتها ومنابرها الفضائية والاجتماعية، وسواء تيار العسكرة ومن سار في ركابه ممن يدعون أنهم مثقفون، وكيف كانت جناية هذين الخطابين على المشهد السياسي الليبي، وكيف تم تغذية نظرية الاستمرار في الاحتراب حتى آخر قطرة من دم الشباب الليبي.
؛؛؛
حينها قيل إنك قد تكون صاحب حق في بداية الحرب، ولكن استمرار الحرب حتى فناء الأطراف يعتبر فعلا نتاج عقل خرف وحيدة عظيمة من مقاصد الشريعة إذا كنت تعتقد أنك تنطلق منها وتستند علي نصوصها وتسترشد بكلياتها ومقاصدها العظمى، وعبث أمني وعسكري إذا كنت تنطلق من منطلق الرغبة الجامحة في اجتثاث الخصم السياسي، في حرب ليس لديك وسائل ولا إمكانية ولا مشروعية حسمها دون دمار الأخضر واليابس ومزيد تهتك في النسيج الاجتماعي المترهل بسبب خروجه حديثا من تحت عباءة الاستبداد التي أسدلت عليه على مدار العقود الأربعة الأخيرة.
؛؛؛
لم يكن مستغربا أن تأتي ردود فعل كلا الطرفين متطابقة، سواء شيعة دار الإفتاء أو أنصار عسكرة الدولة، وعلى نفس الوتيرة والمستوى الأخلاقي والابتذال السياسي، فهم يبتذلون قضايا سياسية عظمى ظنا منهم أن الدفاع عن شخص المفتي أو المشير فوق كل الاعتبارات سياسية أو دينية أو وطنية، وفاتهم بالضرورة جوهر فحوى النقد الموجه للدار والعسكر، والتنبيه على خطورة كل منهما في التدخل في السياسية بوسائل غير سياسية، فالفتوى كما بسط بالشرح ذلك باستفاضة الكتاب على بوزيد في مقاله ” الإفتاء ليس سبيلاً للإصلاح السياسي” والذى نشر على صفحة موقع ليبيا الخبر، فالفتوى تعني أنك تقول إن الدليل الشرعي أقوى في دلالاته على حرمة أو جواز أمر ما، بينما ميدان السياسة يخضع كما بين ذلك الأستاذ القرافي بيانا وافيا للمصلحة ورجحانها، وتدافع المفاسد والقدرة على التقليل منها متى تعذر التخلص منها جملة وإحلال المنافع محلها، وكذلك الأمر بالنسبة للعسكر عندما ينظرون إلى تفاهة مسألة الحرية والديمقراطية والتعددية بحكم تربيتهم وتركيبهم العسكري وخضوعها الدائم لصيغة الأوامر التراتبية، وليس الحوار والاختلاف والتعايش السلمي، مما لا تتوافر مفرداته لا في الأكاديميات العسكرية ولا دورات الأركان ولا ثكنات العمل اليومي.
؛؛؛
فالفقيه ينحرف عن فقهه بأن يعتقد أن له الحق في الوصاية على ضمائر الحشود وعقولهم، وأن ذوقه ومزاجه الفقهي وميله الأصولي هو المعيار في سلامة ونقاوة ضمائر الحشود من حوله، وأن نقده أو مخالفته أو رد كلامه وفهمه للنصوص هو عبارة عن رد لكلام الله عز وجل ومعارضة لحكمه ومحادة لرسوله صلى الله عليه وسلم، وأن ولايته عامة على السياسي وتدخل تحت ولايته كل ممارسات مؤسسات الدولة، فهو الرقيب والراعي لمصالح الأنام، وينحرف العسكري عندما يشعر أن كل شيء يجب أن يخضع لقائمة الأوامر التي تصدر من قلمه ومكتبه، وأن الحشود غير جاهزة للانتخابات والحكم، وأن الخلاف السياسي بين أطراف العملية السياسية خيانة عظمى يعاقب عليها بالسحل في الشوارع، حيث لا تعدو الانتخابات في نظره عن لعبة، وهكذا كل الحكام العسكريين في منطقتنا، نفس المنطق المحتقر للمواطنين، والتنكر لحق المدنيين في أن يكون لهم مؤسساتهم المدنية المسيرة للدولة، وحق المواطن في تكوين مؤسسة سياسية، المتمثلة في الأحزاب السياسية، ليمارس من خلالها حريته في التعبير وحقه في أن يتقدم للترشح للوظائف السياسية العامة في دولته، بشكل سلمي تداولي.
؛؛؛
وتبلغ المأساة ذروتها عندما يقوم الأول وبشعوره بالكراهية المقدسة لأعمال المخالفين له، فيبلغ به الأمر إلى حد تحريض شيعته على قتل مخالفيه، فكم من قاتل مأجور قتل وهو يردد فتاوى شاذة فاسدة، وكم من قتيل قتل وهو يرجو ثواب فتاوى شاذة فاسدة، وكذا الأمر للعسكر، فكم من قاتل قتل وهو يظن أنه يحسن صنعا ويرسي أمنا، وكم من قتيل قتل وهو يرجو أن يكون شهيد واجب، وكلا الاثنين ضحايا فتاوى شاذة متشددة وأوامر رغبات العسكر في الزعامة.
؛؛؛
حتى تأكل منسأته !
الجميع يدرك أن هذه من أبرز عوامل التوتر في المشهد الليبي، فمهما اختفى أحدها كان ذلك يصب في خانة تقليل حدة التوتر، وعامل مساعد على تقارب الأطراف، وقد لوحظ ذلك بتقارب مدن ليبية توترت الأجواء بينها في فترة ما، ولملابسات واقعية فيها الخطأ والصواب على حد سواء، مهما يكن من أمر لا ينبغي أن يستمع إلى سفيه يقول بوجوب الاستمرار في الاحتراب حتى لو كان على صواب، بل يجب شرعا وعرفا وسياسة أن يتوقف الاحتراب إذا طال أمده، وتبين عدم إمكانية حسمه لصالح أي طرف من أطرافه، فشاهدنا بمجرد اختفاء أحد عناصر التوتر تقاربا بينا، ليس مدينتن فقط، بل بين مؤسستين سياسيتين هما البرلمان والمجلس الأعلى للدولة، وذهبا إلى الشقيقة المغرب كي يجلسا ويتحاورا ويبحثا لهما عن مخرج، وقد زال أبرز عناصر التوتر والتعطيل في المشهد السياسي، وتنفس الناس الصعداء، وإن ظل هناك أصوات ممن ارتبطت مصالحهم باستمرار حالة التوتر، وهي أطراف محلية وإقليمية تظاهرتا على التشكيك والتجريم لخطوة التقارب بين المؤسستين، وعندما عاد إلى مسرح الأحداث عامل التوتر مجددا سالت أودية قنوات الفتنة، وتعاملت مع الارتياح في غياب أبرز عوامل التوتر كأننا في ” انردوا في ولية حرجانة” ولسنا بصدد تخليص الحرير من السدر وقد تشابك المشهد، ودخل على الخط الدور الإقليمي الهدام والذى يستهدف كل محاولات ومقاربات الاستقرار في ليبيا، بعضها من أجل استخدام ليبيا مكبا لتصدير أزماتها الاقتصادية والسياسية الداخلية، وأخرى لشعورها بأن الاستقرار في ليبيا يعني ولادة مارد اقتصادي جديد يشكل أكبر تهديد تنافسي لمكانتها التجارية بين آسيا وإفريقيا وأوروبا.
ثم إن عودة أبرز أسباب التوتر ليست عودة ، بل هي عودة مبرمجة لضرب مبادرات الانفراج في الأزمة، وهنا يقال هل سينتظر الناس حتى تأكل دابة الأرض منسأة عوامل التوتر وتسقط من كل الحسابات الإقليمية كي تدرك أنها لم تكن تعمل للصالح العام بل من أجل زعامة أشخاص.
المصدر / ليبيا الخبر