بدايةً لا نكون ابتعدنا عن التوصيف المنطقي الاستشرافي إن قلنا بأن سقف المأمول كبير، غير أن الواقع يتحدث لغةً أخرى قد لا تبشرنا بقدوم الكثير في زمنٍ قصير.
المشهد الليبي حمّالُ أوجه، والقراءة الممعنة تتطلب الاسترشاد بما يتوفر من مخزون التصريحات، ومؤشرات التغيير في الخطاب، وإعادة صياغة العبارات والمواقف.
المشري وهو عضو جماعة الإخوان وابن مؤسسة العدالة والبناء، لا أتصور شخصيًّا وأنا الذي لا أعرف الرجل شخصيًّا ولم ألتقه إلا مرةً في منتدى حواري خارج الديار، لا أتصور أنَّهُ أتى فارغ اليدين، بل ببرنامج منفتح يُراد من خلاله تحقيق انفراجة في المشهد السياسي الراكد وأمام سيناريوهات عديدة ومخيفة قد لا يسلم منها الوطن.
لنقرأ المشهد القادم في تحركات المشري فإن القراءة لا تكون دقيقةً إلا حين تكون في سياق الخلفية المؤسساتية الحزبية للرجل، وتصريحات رئيس الحزب التي ذأب فيها الرجل على الطريقة الغنوشية والتي أذكر أشهر عباراتها لرئيس حزب النهضة الغنوشي وهي:-( خُيرنا بين أن نحكم بديمقراطية المغالبة وبين أن نتنازل للتوافق فاخترنا التوافق وتنازلنا عن مكاسبنا الديمقراطية لنختار الوطن عن الحزب).
ولعلنا في عقد المقارنة بين المشهد السياسي التونسي والمشهد في ليبيا سنكون أمام اختلافٍ في التجربة والسيناريوهات والرؤى، فحزب النهضة هناك لم يصطدم بمؤسسة الجيش كما في مصر، حيث اعتاد الجيش أن يكون هو الحاكم ولو من خلال بدلة مدنية وربطة عنق، بل دخل في تجاذبات سياسية وحراك ضده من خلال مؤسسات مجتمع مدني نشطة، على رأسها اتحاد الشغل، وتمكن الغنوشي بحنكةٍ حُسبت له من أن يعبر بالنهضة إلى أماكن أكثر أمنًا، حين انتهج سياسة التنازل لصالح الوطن وهو كذلك كان تنازلًا لإنقاذ الحزب من موجةٍ ارتدادية لم تكن لتسلم النهضةُ منها وقتئذٍ.
هنا في ليبيا لعلّ المشهد مختلف، فهناك في الشرق الليبي تمكن خليفة حفتر من السيطرة وهو يقود الآن ما يُعرف بإقليم برقة بالشكل العسكري وأن البرلمان وحكومته يكاد المتأمل ألا يرى لهما دورًا غير المسموح به، حتى إن انعقاد البرلمان صار من الطُّرف التي حين تحدث فبدون نُصابٍ وعلى استحياء.
إذن فالمعادلة تتأرجح ما بين سيناريو تونسي وآخر مصري، ومشري العدالة والبناء ومن خلفه مؤسسة حزبية تعمل بعقل جمعي تريد نسخة غنوشية ولا تريد بالطبع نسخة عاكفيّة أو حتى لنقل كتاتنيّة، وبالتالي فإن المشري أمام ضرورات انعكست في خطاب رئيس حزبه صوان، تشير إلى أن الحزب قرر القيادة، وفضّ بالتالي الشراكة مع السويحلي، وقرر أن يخوض معركة التقارب والشراكة بشكل أكثر براغماتية وهو في السلطة.
غير أن إشكالية امتلاك القرار السياسي ليست معقدة في الغرب كما هي في الشرق، حيث تتلاشى المؤسسات الحزبية السياسية، بل وحتى مؤسسات الدولة السياسية وعلى رأسها البرلمان في مشهدٍ يهيمن عليه قائد الكرامة بنهجه العسكري، حتى إنك قد ترى تونس في غرب البلاد وقد ترى مصر في شرقها، بينما الجنوب يعانق التيه، ومن هنا فإن الدوغماتية السياسية هي ما نراه في الشرق، ويبقى التساؤل هل سيخوض المشري حواره مع نظرائه الساسة في البرلمان أم مع المشير؟ وكيف حسب لذلك؟ وما الأوراق التي بالإمكان تقديمها، وفِي ذات الوقت ضمان عدم التفريط في ثوابت مدنية الدولة والتداول السلمي على السلطة ومبدأ الديمقراطية والاحتكام لإرادة الشعب، وعدم التغافل على أن واقع الغرب الليبي ليس أرضًا خصبة لمشاريع مبادرات مفتوحة، كما أن تكتلات داخل المجلس الأعلى للدولة قد تتسبب في التعطيل فيما لو فشل المشري في تكوين أغلبية مؤثرة.
شخصيًّا إن قلتُ بأن “المشري يترأس والعدالة والبناء تقود” فلستُ هنا أرتكب مخالفةً سياسيةً بل أؤصّلُ لحقيقةٍ لا نحب سماعها حتى ونحن نرى كونها معادلةً لا مناص منها في أسلوب العمل الديمقراطي، فالمشري ابن مؤسسة حزبية وليس بالمتصور أن يقود متفرّدًا مؤسسة مجلس الدولة، والأخيرة لا نقول بأنها تُقاد من العدالة والبناء، بل هي تُقاد من خلال ديمقراطية الأغلبية ومن خلال لائحة داخلية ولجان، وهذا كله وفق ديناميكية معروفة، غير أن ما سيُطرح من مبادرات وما سيُقدم من مشاريع قرارات أتوقعها أكثر نضجًا وانفتاحاً ومرونةً، سيكون قد أُعد له من خلال المطبخ السياسي لدى العدالة والبناء، وليس من العيب ذلك حين تتقدم به مجموعة من أعضاء المجلس التابعين للعدالة والبناء لمجلس الدولة ويتم بحثه بآليات اتخاذ القرار ويتحصل على النصاب، فإن من شأن ذلك أن يُوصف بالعمل الديمقراطي أردنا أم لم نرد، فليس بالإمكان الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه.
لعل المشري وهو مقدمٌ على إعادة فتح الحوار مع البرلمان من خلال المادة 12 من الأحكام الإضافية وتشكيل اللجنتين، قد لا نتفاجأ إن رأينا تقديم تنازلات أكثر، ولكن لا يمكن التكهن بماهيّتها، غير أن القيادة بأسلوب مؤسساتي هي دائمًا الأكثر نضجًا رغم هشاشة الوضع السياسي الليبي وتخبطه والحكم يكون على الأفعال السياسية لا الأقوال.
خيارات المشري والمجلس الأعلى للدولة تظل كثيرة عدا المادة 12 وذلك من خلال المادة 23 والتي تحتم تشكيل لجنة مشتركة مع البرلمان لوضع قانوني الاستفتاء على الدستور والانتخابات، وكذلك المادة 15 فيما لو حدث التوافق من خلال المادة 12 والتي من خلالها يمكن فضلًا عن تغيير الرئاسي وتشكيل حكومة تنفيذية، يمكن تسمية رؤساء الحقائب السيادية من محافظ مصرف ليبيا والنائب العام ورؤساء أجهزة ديوان المحاسبة والرقابة والمحكمة العليا وغير ذلك، لكون كل تلك المؤسسات صارت حاكمة لوحدها، لعدم وجود جهة حقيقية تملك سلطة محاسبتها وتنحية القابعين على رأس سلمها مما زاد المشهد فوضى وإرباك وإفلات من الرقابة والمحاسبة.
انفتاح مجلس الدولة المدروس في تصوري لن يكون في طريقٍ مفروشة بالزهور، فالشريك في برقة لا يملك بشكل ديمقراطي قراراته السياسية، كما أن تغيير أدبيات المرحلة ولغتها يحتاج تناغمًا بين الشريكين، وليس التنازل المفتوح الذي لا يصادف قبولًا حقيقيًّا، غير أن هذا التنازل والتقارب سيبقى عنصر ضغط وهو ورقة سياسية ذكية لإحراج الآخر ووضع الكرة في ملعبه، وهو ما نقرأه في بعض ما ذهب إليه السيد صوان في تصريحه الأخير، فالسياسة تتطلب المناورة والمرونة وحتى التنازل المدروس ” الغنوشي وليس العاكفي” حتى إن خرج على الليبيين رئيسًا لم يكن كامل الأوصاف، غير أن الاختيار ما بين عقيلة ومشير الكرامة مثلًا، سيكون عقيلة في توبه المدني أخف الأمرين، وعقيلة الطرابلسي حينها سوف لن يكون عقيلة الطبرقي مع الاعتذار، فالتشبيهُ المراد هنا هو قياس مدى التحرر من سلطان هيمنة العسكر ، إلى فضاء أكثر مدنيّةً.
لا شك أن ديننا الذي قال فيه ربنا لنبيه:- (ادع إلى سبيل ربك بالحكمةِ والموعظة الحسنة)، هو ذاته الذي قال فيه ربنا لنبيه:- ولو كنت فضًّا غيظ القلب لانفضُّوا من حولك. فقط هناك خيطٌ رفيعٌ بين المثالية والواقعية وبالتالي ينبغي سياسيًّا أن نعمل بقاعدة لا إفراط ولا تفريط، لا إفراط في التشبث بالسلطة ولا تفريط في مبادئ وثوابت ما تحقق للشعب من مكاسبٍ ليس أهمها مدنية الدولة وليس أقلها حرية التعبير والنهج الديمقراطي الذي لا سلطان عليه إلا إرادة الشعب.
وأختم في المقام بأن أقول إن الحنكة السياسية والتنازلات الذكية بمعيار وطني مدروس هي ما أتصور أنه سيكون سمة المرحلة “المشرية” التي سيخوضها مجلس الدولة في قابل الأيام.
المصدر : الصفحة الرسمية للمحامي فيصل الشريف