إن قراءة الأفكار وتوقُّع ردود الفعل هما أمران مثيران ويمكنهما ضبط تصرفاتنا والتعامل مع الأحداث بطريقة أكثر دراماتيكية لتدارك ردود الفعل استباقاً وكسب ود ورضى الآخرين. كثيرون تناولوا في كتاباتهم موضوع الذكاء العاطفي الذي يعتمد على تحليل واستيعاب طريقة تفكير الآخرين من خلال الكلام والانفعالات ولغة الجسد، لكن هل من الممكن أن تتمكن شبكات الحواسيب من قراءة أفكارنا والتنبؤ بردود فعلنا؟
أضف فلان الفلاني كصديق، تقول الشبكة الاجتماعية المفضلة لديك. مهلاً، ماذا عن متابعة فلانة الفلاني؟ تقول شبكة اجتماعية أخرى. لا مفاجأة هنا؛ فشَبكات التواصل الاجتماعي تريد دفع الناس لاستخدامها بشكلٍ أكبر، إلا أنها مهمة حساسة، فقلةٌ منا يريد أن يفتح حياته للغرباء. لذلك، تقوم شبكات التواصل الاجتماعي؛ مثل: فيسبوك، وتويتر، ولينكدإن، وإنستغرام وغيرها من الشبكات بفحص بيانات مستخدميها ومحاولة التنبؤ بمن قد يرغب هؤلاء المستخدمون في التواصل معه. معظم الشبكات الاجتماعية حالياً حصلت على مهارة عالية في الوصول إلى هذه التوقعات.
ربما يقول البعض إن المسألة بسيطة، فمن خلال الأصدقاء المشتركين أو الموقع الجغرافي تقترح علينا شبكات التواصل أصدقاء جدداً، لكن الموضوع أعقد من هذا.
ففي الصيف الماضي، قالت الصحفية كشمير هيل إنّ موقع فيسبوك اقترح عليها صداقة مع امرأة تدعى ريبيكا بوتر. لم تجد كشمير هيل أي رابط يجمعها بهذه المرأة، ولكنها تذكرت أن جدها الذي هجر والدها حين كان طفلاً رضيعاً يحمل اسم العائلة بوتر نفسه. وفي الحقيقة، إن ريبيكا بوتر متزوجة بأخ جد كشمير، حيث إن فيسبوك اكتشف العلاقة الضائعة التي لم تعرفها كشمير من قبل!
كشمير وأنا وغيرنا، تعرفنا على أقارب وأشخاص لم نعرفهم من قبل، لكننا لا نستطيع أن نفهم كيف قامت شبكة فيسبوك باقتراح هؤلاء الأقارب والأشخاص وبناءً على أي خوارزمية*. لا فيسبوك ولا غيرها من شبكات التواصل ستفصح عن خوارزمياتها؛ وذلك بسبب المنافسة وحماية مصادرها.
لا يقتصر الموضوع على اقتراح صداقات، لقد حصلت الشبكات الاجتماعية على عدد غير محصور من المعلومات عنا بحيث نعجز عن شطبها، فعلى سبيل المثال أعلنت فيسبوك في منتصف عام 2016 أنها أصبحت تلاحق مستخدمي الإنترنت من غير مشتركيها بإعلانات موجهة عبر طرف ثالث؛ أي شركات تابعة أو متحالفة معها، من خلال ما يسمى متابعة الكوكي** أو من خلال علاقة مستخدمي الإنترنت بمشتركي فيسبوك.
فعلى سبيل المثال، يقوم مستخدمو فيسبوك في منطقة جغرافية معينة بتصفح مشاركات عن موضوع معين فيظهر لمتصفحين من المنطقة الجغرافية نفسها إعلانات على مواقع غير الفيسبوك تستهدف اهتمام سكان تلك المنطقة الجغرافية. والعكس صحيح، حيث إن متصفحي الإنترنت حين يبحثون في محركات بحثٍ مثل جوجل أو حين يزورون مواقع تسوق وغيرها، يجدون إعلانات على فيسبوك تتطابق مع مواضيع بحثهم أو متعلقة بالمواقع التي زاروها. لقد تحرك الاتحاد الأوروبي قبل بضع سنوات لحماية مستخدميه من عبث تلك الشبكات، عبر إجبار المواقع الإلكترونية كافة على الحصول على موافقة المستخدم لتحميل الكوكي.
وكما تقوم شبكات التواصل بتخمين من نريد أن نضم لأصدقائنا، فإن شركات بيع التجزئة تقوم بالدور نفسه، لكن لهدف آخر وهو تسويق منتجاتها. فقد حصلت شركة أمازون على براءة اختراع “الشحن الاستباقي”، حيث تقوم شركة أمازون بتحليل معلومات الزبائن لمعرفة رغباتهم؛ ومن ثم توصيل المنتجات لهم قبل أن يطلبوها.
وبما أننا نعيش في زمن إنترنت الأشياء، وأغلبنا يحمل هاتفاً ذكياً متصلاً بالإنترنت ومزوداً بنظام الملاحة، قامت الحكومات باستغلال المعلومات المجانية التي تصلها لتسهيل تنظيم المرور ومعرفة أماكن الازدحام، حتى إنه ظهرت حديثاً تقنية تسمى “الشرطة التنبؤية”، حيث إنها تستخدم خوارزميات لتتوقع الأماكن الأكثر عرضة لحدوث مخالفات أو جرائم. هذه التقنية مستخدمة حالياً في 20 قسم شرطة بالولايات المتحدة الأميركية، بالإضافة إلى الدنمارك وهولندا وبلجيكا والنمسا.
أما في الصين، فقد قامت شركة تدعى “كلاود ووك” باستخدام خوارزميات لتحليل تفاصيل الوجوه وربطها بمعلومات مغذية مسبقاً للتنبؤ بما إذا كان شخص معين مستعداً لارتكاب مخالفة أو جريمة، وهذه التقنية معتمدة من قِبل 50 سلطة قضائية حالياً. في العام الماضي، بدأت شرطة دلهي في الهند بعمل نظام مشابه، بالتعاون مع منظمة أبحاث الفضاء الهندية.
تقنيات وخوارزميات التنبؤ أصبحت منتشرة ورخيصة في أيامنا هذه، وأصبحنا نستخدمها بشكل يومي، فعلى سبيل المثال: حين نبدأ بكتابة بعض الأحرف على هاتفنا الذكي تبدأ بالظهور لنا كلمات مقترحة تنبأ بها هاتفنا الذكي، حيث إنه يخزن معلومات عن مدى تكرار الكلمات التي نستخدمها وكيف نصيغ الجُمل. إذا فتحت تطبيق اليوتيوب يظهر لك مقاطع فيديو مقترحة أيضاً بناء على رغباتك وذوقك ومشاهداتك السابقة، حتى إن ما يُعرض عليك بالليل يختلف عما يعرض عليك بالنهار، وهناك الكثير من المعلومات المدروسة لظهور الاقتراحات.
قد تلاحظ أيضاً رسائل تظهر على شاشة هاتفك تخبرك بأنه يجب أن تغادر عملك أبكر من الموعد الذي تغادر به عادة؛ من أجل تجنب أزمة سير عارضة. هذه التوقعات تسمى توقعات لحظية؛ أي إن نظام جوجل أو آبل قد قرر إرسال رسالة لك بناء على معلومات المرور الفورية الواردة لتطبيق الملاحة.
لم تقتصر التوقعات اللحظية على جوجل وآبل، فحصلت فيسبوك حديثاً على براءة اختراع لخوارزمية تتنبأ بحالة المستخدم العاطفية خلال تفاعله مع الفيسبوك، عن طريق تحليل سرعة حركته على شاشة الهاتف المحمول ومدى قوة الضغط على الشاشة، بالإضافة الى رصد حركة المستخدم ومكان وجوده في المنزل أو العمل أو الشارع ومعلومات أخرى موجودة مسبقاً عن المستخدم.
ستقوم فيسبوك، على الأغلب وحين تصل هذه التكنولوجيا إلى مرحلة التطبيق، باستخدام معلوماتها عن حالة المستخدم العاطفية؛ ربما لتمنعه من كتابة كلمات قاسية إذا كان غاضباً أو أن تنشر رمزاً تفاعُلياً (إيموجي) يوحي بحالة المستخدم العاطفية. هناك استخدامات تجارية للتوقعات اللحظية؛ فعلى سبيل المثال: تطبيق تريب أدفايزر (Trip Advisor)، المعنيّ بتقييم المستخدمين لفنادق ومطاعم وغيرها من الخدمات السياحية، يقوم بإرشادك إلى مطاعم أو فنادق حال معرفته بتنقلك من مكانك المعتاد إلى مكانٍ آخر.
تقنيات التنبؤ وصلت لمرحلة تستطيع من خلالها توجيه تفاعلاتنا الحياتية اللحظية والمستقبلية، فمثلاً يوجهك النظام الملاحي الى استخدام طريق خالية من الأزمة المرورية، يرشدك إلى أصدقاء أو أقارب لتتواصل معهم لم تكن تربطك بهم علاقات لسنوات أو ربما لم يكن هناك علاقة أصلاً.
يتركز الكم الأكبر من اهتمام شبكات التواصل الاجتماعي وشركات التجزئة والخدمات الإلكترونية حالياً على كيفية إظهار معلومات وتفاعلات للمستخدم بناءً على ما تعرفه عنه، فبناءً على المعلومات والاستنتاجات المنطقية يظهر لنا في هذه التطبيقات معلومات محفِّزة من أجل مزيد من التفاعل من قِبلنا، وبهذه تجمع هذه الشبكات معلومات أكثر.
خطر شبكات التواصل لا يقتصر على ما تعرفه عنا، هل فكرت يوماً أن الأحزاب السياسية ومؤسسات الدولة تقوم باستمزاج الرأي العام من خلال تفاعلات المستخدمين؟
سأزيدك من الشعر بيتاً، شركة كمبردج للتحليل (Cambridge Αnalytica) (2) تستخدم معلومات عن مستخدمي الشبكات الاجتماعية وغيرها من أجل تغيير رأي الجماهير، وتقدم هذه الخدمات لشركات تجارية وأيضاً لأحزاب ومؤسسات سياسية. استخدمت حملة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، هذه الشركة من أجل تشجيع المصوتين اليمينيين للتصويت له.
من الطبيعي أن تكون الشركة حصلت على بيانات عن مستخدمي شبكات التواصل، كالتحليلات النفسية والمشاركات والتفاعلات والتشابهات بين المستخدمين. هذه المعلومات مكَّنتها من معرفة من يمكن أن يصوِّت لترامب، وشجَّعته على ذلك عبر توجيهه من خلال إعلانات أو مشاركات تفاعلية على الشبكات الاجتماعية.
هذه الخدمات ليست مجانية؛ فهي تدر أرباحاً بالملايين على هذه الشركات التي تقدم خدمة تحاليل وتنبؤات حصلت عليها مجاناً من خلال مشاركات وتفاعلات المستخدمين. التنبؤ السياسي يلعب دوراً كبيراً في الولايات المتحدة، ليس للتأثير على انتخاب الرئيس فقط؛ بل يمتد للتأثير على انتخاب أعضاء مجالس النواب والشيوخ.
فدوائر الانتخاب تتم مراجعتها كل 10 سنوات، وتسعى الأحزاب السياسية في الولايات المتحدة لرسم حدود الدوائر الانتخابية، ساعيةً للحصول على عدد أكبر من المصوتين في كل دائرة، فمثلاً يقوم الحزب الجمهوري باقتراح خريطة لتحييد ناخبي الحزب الديمقراطي من تلك الدائرة لضمان الفوز.
مهما حاولنا تحييد هذه التقنيات عن حياتنا، فإنها تبدو قادرةً على تغيير نمط عيشنا. فيما يبدو أن علينا في المستقبل قبول فكرة التعامل مع آلة تعرف عنا أكثر مما نعرفه نحن عن أنفسنا. وربما تقوم هذه الآلة بتقديم استشارات لنا وتوجيهنا، ولكن سيكون كل ذلك على حساب خصوصيتنا.
المصدر : موقع هاف بوست عربي