طيلة التسع سنوات الماضية كان الجنوب الليبي الحلقة الأضعف في المعادلة الليبية بكل أبعادها الجيو سياسية والتنموية والأمنية، كما حافظ على كونه مضرب الأمثال في وصف أدق مفردات المعاناة واستثمار البؤس.
وطيلة تلك السنون العجاف يتقلب سكان الجنوب بين أصناف المعاناة وقلة الحيلة وانعدام الأسس البنيوية لأي شيء له علاقة بالدولة، وبين تشفي الظلم وسلب الإرادة، واستفراد قوة العسكر الكلاسيكية بكل تفاصيل الحياة اليومية.
فهل ستكون حكومة الدبيبة عند آمال وتطلعات المواطن بالجنوب الذي ينتظر بفارغ الصبر تخليصه من براثن تجار الحروب والأزمات والجموع الهجينة من البنادق المأجورة التي تخدم مشروع المستبد هناك وتمارس بكل صلف تصفية الخصوم المفترضين له؟
ما هي الرؤية التي وضعتها حكومة الوحدة الوطنية للتعامل مع أزمات المنطقة الجنوبية وكيف ستتعاطى مع المليشيات المسلحة التي تدير بجدارة منقطعة النظير عمليات تهريب الوقود والغاز لخارج البلاد وتسيطر على كافة مصادر الطاقة بالجنوب؟
أم أنها لا سمح الله ستتورط في مداهنة تلك التشكيلات وتمنحها الشرعية بدل محاسبتها على ما ارتكبته في حق الضعفاء الذين صادرت أبسط حقوقهم في العيش الكريم، ولم ترحم منهم أحدا لنحو سبع سنوات، وتكتفي بتقديم جيل جديد من الملهيات وبيع الوهم للبسطاء في تلك المنطقة المثقلة بتصدير الشعارات ومصطلح الجنوب الحبيب.
إذا وقعت الحكومة في شراك التعامل وشرعنة تلك الأجهزة المحترفة جدا في خنق المواطن البسيط بالجنوب والغارقة حتى أذنيها في تهريب مقدرات الدولة، بل وإدارة خطوط المخدرات الإقليمية فإن الوضع سيبقى على ما هو عليه ولن ينفعه إرسال الوقود إلى هناك.
على حكومة الوحدة الوطنية إذا أرادت فعلا إنهاء سطوة أباطرة التهريب في الجنوب أن تبعث بقوة منضبطة من خارجه تتعامل مع الوضع بشكل أمني محترف، وليس إقامة شراكات مع بعض التشكيلات القبلية التي دائما ما تكون غير مقبولة؛ بسبب الخوض المفرط في التقسيمات الجهوية.
التعامل مع الوضع في الجنوب الليبي يحتاج إلى حكمة وإرادة حقيقية، حيث تلعب الولاءات القبلية دور مهما جدا في تسيير أغلب الأمور على حساب النظم الإدارية والقانونية التي يفترض أن تكون هي المعيار الأساسي في المعاملات وتسيير نظام الحياة..
إلى جانب هذه التعقيدات توجد مشاكل أخرى تعد من أبرز ما يعانيه المنطقة الجنوبية وعلى رأسها الحدود المفتوحة على مصراعيها منذ ما يقارب عقد من الزمان ما جعل المنطقة بيئة مناسبة لنشاط وتواجد الجماعات المتطرفة بمختلف أنواعها، فضلا عن كونها مدخلا أساسيا لقوافل الهجرة غير النظامية.
صحيح أن مشاكل الجنوب الخدمية ليست وليدة الواقع الحالي الذي تعيشه ليبيا بعد ثورة فبراير، بل هي معضلة حقيقية ناتجة عن تخلف النظام الإداري في الدولة الليبية منذ أربعة عقود…
وقد لاحظ ذلك عالم الجغرافية السياسية المصري جمال حمدان منذ سبعينات القرن الماضي في كتاب له عن الجغرافية السياسية الليبية حيث اكتشف حمدان بحس إستراتيجي أن ليبيا تعاني من تخلف إداري جعل أغلب سكان ليبيا يتركزون في الشريط الساحلي الليبي الممتد من رأس اجدير “الحدود التونسية” إلى طبرق في أقصى الشرق الليبي، أي ما يعرف تاريخا بإقليم طرابلس وبرقة، بينما وصف فزان بــ”الربع الخالي” أي أنها أكبر مساحة جغرافية في ليبيا.
ولاحظ كذلك الفوارق الحادة في الخدمات الحكومية بين فزان وإقليمي طرابلس وبرقة رغم أن الصحراء الليبية ليست عبئا على الدولة؛ لما تتمتع به من ثروات هائلة من النفط والغاز والمعادن الأخرى..
ويعد ما ذكره حمدان من فوارق حادة في قلة السكان والبنية التحتية ومستوى الاهتمام الحكومي بين الفضاء الصحراوي الليبي والساحل المتوسطي الذي يضم برقة وطرابلس أوضح أوجه التخلف الإدارية وآثار النظام المركزي في ليبيا رغم ما يشكله الجنوب من عمق إستراتيجي لليبيا، حيث يعد بوابة لليبيا التي تربطها بإفريقيا وتشكل عمقها الإفريقي المهم.
مشاكل أخرى كانت من أهم العوامل التي أنهكت السكان والجغرافيا معا في الجنوب، وهي التوزيع غير العادل لثروات البلاد، بل وحرمان هذه الرقعة من أرض ليبيا من التمثيل الحقيقي في الحكومات وأجهزة الدولة لا سيما مراكز القرار والوزارات السيادية، حيث يستلزم أبسط مرض شد الرحال إلى خارج الجنوب بحثا عن علاج أو أدوية.
بل إن المؤسف والمحبط أن هذا النظام ومعياره العرفي لا زال ساري المفعول يصمد بكل شجاعة أمام التطور العلمي والمعرفي؛ نتيجة استقوائه بحاضنة شعبية ومجتمعية تجاوزتها حركة التاريخ وتبدل المعطيات وأصبحت ضمن معضلة التخلف الحضاري.
لكن في المقابل هناك أمر آخر لا يمكن تجاهله يتعلق بسكان الجنوب أنفسهم لماذا ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا دائما عالة على الآخرين؟ ولماذا ينتظرون أن تأتيهم الجنة وهي طائعة ثم ينعمون بنعيهما دون مقابل، ودون حتى الحفاظ عليها كنعمة من الله؟
هل يوجد في منطق العقل أن تختنق بدخان الآبار النفطية بينما تشتري لترا من البنزين بأكثر من ثلاثة دنانير؟ كما لا يستساغ أن ترى ذلك الزحام الشديد على قوافل الأطباء حين تبادر مشكورة بالزيارة لأحد قرى الجنوب الريفية والذي يذكرك بتلك القرى في أدغال إفريقيا في القرن السابع عشر.