كان هدف الشعب الليبي من الثورة التي قام بها قبل عشر سنوات ضمن معركة تقرير المصير، هو وضع حد للاستبداد الذي كان بمثابة آخر هدية من قبل أنظمة الاستعمار والاحتلال طيلة قرن من الزمن. أما القذافي الذي حكم البلاد باستبدادية لا ترحم طيلة أربعين عامًا، فقد كانت خطاباته تبدو وكأنها وطنية بامتياز، وأفعاله من الغرابة بمكان.
ولا شك أن تلك الأفعال والخطابات كانت تدغدغ مشاعر شعبه بل عموم الشعوب العربية كذلك، لا سيما في بداية الأمر، حيث كانت تشعر بنوع من الانتصار الذاتي أمام ما خلفته فيهم سنوات الاستعمار العجاف. تمامًا حينما قام القذافي بنصب خيمته في حديقة فندق ماريني بفرنسا خلال زيارته إلى هناك، وأصر على عقد لقاءاته الرسمية في الخيمة، حيث أعطى ذلك شعورًا -وإن كان مزيفًا- من النظرة من الأعلى إزاء الغرب في الظاهر.
إلا أن تكاليف هذا المشهد كان مكلفًا للغاية، فسرعان ما اتضحت الصورة بشكل أكبر وتحول الحديث نحو الحجم الهائل للمشتريات من فرنسا، والأموال الليبية المغدقة كالنهر الذي لا ينضب ماؤه على فرنسا، مما أفرز حالة من الإحراج لدى الرأي العام العربي، وبات لا يشك بأنّ ما جرى مجرد مسرحية. ولم تكن مظاهر الغطرسة هذه إزاء الغربيين، سوى تمثيلية استعراضية باهتة، تُخفي تحت أقنعتها استعمارًا أشدّ غلاظة وإثمًا.
وفي المقابل كانت اعتراضات اليسار الفرنسي وكل شرائح المعارضة على ما وصفته بالإذلال جرّاء فعل القذافي، لا تحمل أيّ معنى ذي أهمية. حيث أن الاستعمار الفرنسي كان يركز على مكاسبه بالدرجة الأولى، ولم تكن لديه مشكلة من صدور هذا النوع من الممارسات والخطابات ما دام قد أحكم استعماره على اقتصاد البلاد.
إلى أن جاء الربيع العربي، فأعطى فرصة للشعب الليبي للتخلص من هذا التناقض التعيس، والدفاع عن الوطن والكرامة أمام هذا النوع المنافق ذي الوجهين من الاستبداد. ولا شك أنّ الشعب الليبي لم يفوّت هذه الفرصة فقرّر خوض ثورته.
واليوم نجد أن حفتر الذي ما هو سوى انعكاس لنظام القذافي، لكن بطريقة أشد قساوة ودناءة في الاعتماد على المستعمرين وتمويلهم؛ يحاول إعادة ترميم ما بقي من ذلك النظام، ويتهم تركيا التي لم تأت إلا بدعوة من الشعب الليبي ذاته، بأنها دولة استعمارية.
خرج حفتر في الذكرى الـ69 لاستقلال ليبيا، في مراسم ضمن ما يُسمّى القيادة العامة في بنغازي، دون ذرة من الحياء والخجل، متناسيًا أنه قبل بضعة شهور فقط قد فرّ متخاذلًا أمام تقدّم قوات حكومة الوفاق المدعومة من تركيا، وراح يتهم تركيا ويتطاول عليها بالقول؛ “لا قيمة للاستقلال ولا معنى للحرية طالما أنّ أرضنا الطاهرة يلوثها الجيش التركي، كما لن يكون هناك أمن وسلام. ولا خيار أمام العدو المحتل إلا أن يغادر سلمًا وطوعًا أو بقوة السلاح والإرادة القوية”.
إن الجيش التركي لم يكن يومًا على الإطلاق ليلوث تراب ليبيا الطاهر، بل إنه هناك يواجه عميلًا يريد تسليم بلاده للمحتلين، هذا العميل هو حفتر.
نعم قد ألقى حفتر خطابه ضمن المراسم التي أقيمت في بنغازي، لكن كما ذكرنا في المقال السابق، أنه حتى أهالي بنغازي ليسوا في صف حفتر ولا راضين عنه. وأن ما لا يقل عن 150 ألف مهجّر من بنغازي، يشير بقوة إلى أنّ المدعو حفتر لا يمكن له بأي حال أن يدّعي تمثيلهم، ولا يملك أي حق في ذلك.
ومن الغريب للغاية أن نجد أحدًا مثل حفتر يتحدث عن الاستقلال والحرية، وهو الذي يتصرف كالمحتل في كل مكان يستولي عليه، ويلوث كرامة الشعب الليبي، ويقدّم بلاده لفرنسا وعيال زايد والسيسي صاحب الانقلاب. من الواضح للغاية أنّ الاستقلال الذي يتحدث عنه ليس استقلال ليبيا، كما أنّ الحرية التي يحكي عنها ليست حرية الشعب الليبي كذلك.
حتى في بنغازي التي استولى عليها بطريقة ما، نجد أنّ أهاليها يبحثون عن مخرج يخلصهم من حفتر وميليشياته. وهذا يؤكد مرة أخرى على أنّ حفتر ليس سوى فاقد للشرعية منذ البداية، حتى في بنغازي نقطة انطلاقه. ولم يصل إلى الواجهة إلا من خلال الانقلاب على الحكومة الشرعية من خلال الأسلحة التي حصل عليها. وحينما وجد معارضة من أهالي بنغازي، قام بتهجير ما لا يقل عن 250 ألف منهم، وقتل الآلاف وسجن آلاف أخرى مثلهم.
إنّ ما فعله وقام به حفتر من ممارسات، يندرج في نطاق الجرائم ضدّ الإنسانية التي يجب أن تخضع لمحاكمة في المحاكم الجنائية الدولية. وفي واقع الأمر يكفي أن ننظر إلى المقابر الجماعية التي خلفها وراءه في ترهونة، التي كانت قد احتلها من خلال انقلابه لفترة من الوقت، سنجد تلك المقابر تكشف كل يوم عن مكنون تلك الجرائم الدموية التي قام بها حفتر. وهذا بدوره يكشف بكفاية عن طريقة الحكم التي يُدير بها المناطق التي يجثو فوق صدور أهلها، في كل من طبرق وبنغازي.
إلى جانب كل هذا، تعتبر محاولة هذا المجرم اليوم التطاول على تركيا، ومحاولة إلقاء التهديدات الفارغة، ليس سوى انعكاسًا لعدم معرفة هذا الشخص بحدوده.
لا شك أن هناك من يقوم بتحريض حفتر في الوقت الراهن، وتأليبه لإعادة فتح جبهة صراع ضد تركيا. لماذا؟ هل لأجل ألا يخسروا ما بقي في أيديهم؟ أم أنهم كانوا يرون في وقف إطلاق النار فرصة لإعادة تجميع القوى، والآن رأوا أنهم تمكنوا من ذلك فيريدون أن يعيدوا الكرّة؟
بغض النظر عمّا يبحثون عنه ويسعون إليه، المهم أنهم لن يلاقوا سوى حتفهم، أمام تركيا التي لا تتحرك إلا وفق إرادة ورغبة الشعب الليبي.
ولا شك أنّ زيارة وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، قبل أمس، إلى ليبيا، قد أرسلت بهذه الرسائل بأوضح صورة وأجلاها. ولقد كان من المهم للغاية تركيز أكار على حقيقة أنّ المجازر التي ارتكبها الانقلابي تتكشف مرة أخرى من خلال 21 مقبرة جماعية تم العثور عليها في ترهونة.
إنّ سكوت وتغاضي العالم عن حفتر، بل والتعامل معه كطرف شرعي خلال المحادثات الدولية التي تجري في الوقت الحالي، يعتبر أمرًا في غاية الغرابة، فضلًا عن كونه غير مقبول على الإطلاق. وفي هذا الصدد نجد أنّ السيد أكار قد أعرب عن اعتقاده بأن حكومة الوفاق الوطني لن تتخلى عن ملاحقة هذه الجرائم ضد الإنسانية.
وهذا أمر مهم للغاية في الحقيقة، لأن تحويل هذه القضية إلى أروقة محكمة الجنائيات الدولية، سيؤدي بدوره إلى إعادة ترتيب أوراق شرعية كلّ طرف في الساحة الليبية الآن.
لا يمكن على الإطلاق بأن يكون لمن ارتكب جرائم ضدّ الإنسانية بحق الشعب الليبي، ولا يملك أيّ ذرة من الاحترام، كلمة أو قول في تحديد مستقبل ليبيا. لكن كما قال أكار وأكد على ذلك بوضوح؛ إنّ تركيا ترى أنّ ليبيا هي لليبيين، وأن الشرعية الأساسية للوجود التركي هو إرادة ورغبة الشعب الليبي.
المصدر- صحيفة “يني شفق”