in

الصراع السياسي الليبي الناعم

تستقبل ليبيا وطرابلس تحديدا فجرها كل يوم على إثر صراعات سياسية ناعمة ومثيرة للجدل، أبطال هذا الصراع هم أعضاء من المجلس الرئاسي ورئيسه وبعض الوزراء والعسكريين ومحافظ مصرف ليبيا المركزي، ورئيس المؤسسة الوطنية للنفط.

هذا الصراع القديم المتجدد حدث على أثر تباينٍ في الرؤي والمصالح للأشخاص القابعين في المناصب القيادية، فبينما يسعى البعض إلى إنتاج مجلس رئاسي جديد بدعم أممي وفق رعاية أمريكية، يرى المجلس الرئاسي عن طريق رئيسه أنه من الأفضل بقاؤه في منصبه حتى إشعار قد يكون قادما، وقد لا يأتي أصلا، أما بعض الأعضاء في المجلس الرئاسي فيسعون لتغيير المجلس بحيث يكون هذا التغيير طفيفا يشمل فقط رئيسه، ويُستبدل بأحد نوابه المهتمين بالسلطة.

مسار السيد الرئيس ونائبه

في منتصف سبتمبر الماضي أعلن رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج عزمه ترك منصبه، وأعطى فرصة للأعضاء من مجلس نواب طبرق والأعلى للدولة المتحاورين في سويسرا والمغرب لتشكيل سلطة سياسية جديدة حتى نهاية أكتوبر تفهمت بعثة الأمم المتحدة هذا الأمر، ورحبت بهذا الاعلان، لكن فشل المسار التفاوضي أو تعثره جعل من السيد الرئيس يتراجع عن قراره خوفا من حدوث فراغ سياسي، عودة الرئيس كانت حماسية، وحملت في جعبتها عديد القرارات وكثيرا من التحالفات، فالسراج سيترك الرئاسي عاجلا أم آجلا، لكن هناك من المنتفعين من يرى أن استمرار الفوضى أنجع من الاستقرار.

السراج ومنذ أيام فجّر مفاجأة من العيار الثقيل؛ إذ سربت صحيفة إيطالية أنه عرض عن طريق رئيس الحكومة الإيطالية ووزير خارجيته منصب رئيس الوزراء على شخصية يختارها حفتر آملا إنهاء النزاع القائم على السلطة، السراج نفى عن طريق الناطق الرسمي باسم المجلس الرئاسي أي تفاهمات كهذه قد حدثت فعلا، لكن نفيه اقتصر على القنوات الفضائية الليبية دون مراسلة الحكومة الإيطالية رسميا حيال هذا الأمر.

مسار نائب رئيس المجلس

يرى نائب رئيس المجلس الرئاسي أن حفتر سلطة فرضت أمرها الواقع على المشهد الليبي، وأن النفط تحت سيطرة واضحة لمرتزقة فاغنر الروسية، وأن تفاوض طرابلس وبرقة لابد أن يكون على أسس اقتصادية، ويرى أن تُمسك طرابلس بمقاليد السلطة السياسية والاقتصادية، بينما يكون للعسكر – دون ما أي تمثيل إقليمي – قوة السلطة العسكرية داخل ربوع ليبيا، هذا الأمر لا يمكن للمنطق أن يستسيغه، وحتى إن استساغه فحفتر بتاريخه الانقلابي لا يمكن أن يكون شريكا، ناهيك عن وجود حقبة طويلة في تاريخ ليبيا كتبتها سلطة العسكر رسخت الجهل والخوف ومنطق اللانظام وحكم العائلة والقبيلة، ومن الممكن الوقوع في هذا الفخ بسهولة خاصة في وجود كيان كالإمارات الساعية لتقويض أي نمط للديمقراطية في العالم العربي.

مسار وزير الداخلية باشاغا

يرى فتحي باشاغا أنه مع تباين المواقف بين روسيا وتركيا وفرنسا ومصر والجزائر، إلا أنه توجد أرضية مشتركة بين كل هذه الكيانات الكبرى، وأن الولايات المتحدة تبقى هي صاحبة اليد الطولى في ليبيا، لأن ليبيا بالأساس ليست منطقة نفوذ روسي، وأن للولايات المتحدة أولويتها، أيضا في أسوء الحالات فستبقى الولايات المتحدة تحافظ على إقليم طرابلس تحت رعايتها خاصة، وأنه كان كذلك قبل الاستقلال.

فكرة باشاغا بإخراج ليبيا من دائرة الصراع والصدام يمكن أن يتحسسها المراقب، فروسيا وتركيا تعملان على عديد الملفات، وإن من أهم مكاسب روسيا هي الاتفاقية الاقتصادية المشتركة بين أنقرة وطرابلس، والتي تمنع إنشاء خط “ميد ايست” لضخ الغاز لأوروبا من شرقي المتوسط عبر اليونان، والذي سيغني أوروبا عن غاز الدب الروسي، أيضا هناك هوامش مشتركة اقتصادية مصرية تركية، وهما الدولتان الحليفتان للولايات المتحدة، والتي ستكشف عن سياستها الجديدة في عهد “بايدين هاريس” قريبا، كما أنه بإمكان طرابلس – وبحسب وجهة نظر باشاغا – أن تلعب دور الدبلوماسي الوسيط في تحريك المياه التركية المصرية الراكدة، فمصر وتركيا تسعيان لإحداث تقارب، لكن أغلب الدول والكيانات منحازة لطرف مقابل طرف، أوروبا مثلا المنحازة لمصر، وقطر مثلا المنحازة لتركيا، فوجود ليبيا على طاولة المفاوضات قد يجعلها تلعب دورا أكبر من المأمول منها رغم ضعفها.

آخر كلمات في تغريدة وزير الداخلية الليبي عقب لقائه الوفد الدبلوماسي والأمني المصري كانت “‏ولا سبيل لإنهاء الأزمة الليبية إلا بتغليب قوة المنطق على منطق القوة.”

وفي تصوري أن السيد الوزير قد أصاب كبد الحقيقة بعمق خلال هذا الوصف، فبطبيعة الحال وبالنظر لوضع ليبيا، وأنها أصبحت ملعبا يتصارع عليه اللاعبون الإقليميون بعيدا عن أراضيهم وحدودهم، يدمرون البلد ويقتلون الليبيين، ويشيدون الأبراج والاستثمارات في بلدانهم، إخراج ليبيا من منزلق الفوضى هو رؤية باشاغا الذي يخشى من تحول ليبيا إلى “عراق” تتنازع عليها أمريكا وإيران أو “يمنٍ” ممزق بين السعودية وايران، أو “أفغانستان” ضاعت بين السوفييت والأمريكان، فقوة المنطق تبين لنا إمكاناتنا ودورنا المأمول إنجازه، أما منطق القوة فهو سينتج العنف، وغالبا ومغلوبا، وصراعا أزليا لن ينتهي.

مسارات في شرق ليبيا

المعركة الأشرس سياسيا تُخاض في شرق البلاد، فالتواجد الروسي غير مقبول شعبيا؛ نظرا لتجربة روسيا السلبية في الأماكن التي تواجدت بها، من كوريا الشمالية حتى ألمانيا الشرقية ودول شرق أوروبا ودمشق حديثا، وتداعيات العقوبات وقانون قيصر على وضعها الاقتصادي البائس، وحفتر يرى وجود الروس ضروريا؛ لتعزيز نفوذه؛ لأن مصر قد تغير خياراتها في أي لحظة.

على المستوى الفكري يخوض أنصار الفيدرالية معركة مع أنصار العسكر، وبينما يرى العسكر أن عائلة حفتر هم المخلصون لبرقة خصوصا وليبيا عموما ممن يتوهمون بأنهم إخوان مسلمون يتربصون بهم، يرى أنصار التيار الفيدرالي أن عقيلة ابن قبيلة العبيدات كبرى قبائل الشرق هو صاحب السطوة لإرجاع حقوق برقة من الموارد الهائلة لليبيا، وإمكانية حصوله على منصب شرفي يمثل به إقليمه.

تاريخ المنافسة القبلية في شرق البلاد لا يحمل تفاؤلا كبيرا لأنصار صالح، فتعقيد المشهد القبلي أبعد من أن يوصف عبر مقال صحفي، لكن أيضا بإمكان جنوب ووسط ليبيا بعيدا عن طرابلس أن يكون لها دور في تحقيق نسبة عالية من إرضاء الجميع، فالتكتلات القبلية قد تقبل بالغريب على عكس المقيم هناك، وهذا ما يبرز أحيانا بين نزاعات برقاوية بين البيضاء والحمراء.

التحالفات خارج الخريطة

زيارة الوفد العسكري والأمني التركي والتركيز على جويلي وباشاغا والنمروش والحداد، وإتباعها بوفد دبلوماسي أمني مصري، يصور مدى قوة وزاراتي الداخلية والدفاع لدى حكومة الوفاق، وبالتبعية قوة الشخصيات القيادية بهذه الوزارات، وهذا العزف الجماعي على نوتات تركيا ومصر يمثل نقلة نوعية في العلاقات الليبية لحكومة الوفاق ومجلسها الرئاسي التائه والمنغلق على الجميع، وما ستحمله الأيام القادمة سيكون اختبارا حقيقيا وجديا لقوة هذه القيادات الجديدة في ترسيم ملامح ليبيا جديدة، بعيدا عن منطق القوة، وبأبجديات قوة المنطق.

كُتب بواسطة إبراهيم العربي

أهالي سرت يشكون سوء المعيشة… و”تسييري” المدينة يدعوهم لاستقبال هدية حفتر المجانية

أسباب اصفرار الأسنان