الحوار والتفاوض بطبيعته هو فن الوصول إلى توافقات يتقاطع فيها فريقان مختلفان حول قضايا محددة، وليس كما يروج له البعض أنه فرض لخيارات وإخضاع أحد الفريقين للآخر.
أقول هذا الكلام لاستغرابي من ردود أفعال بعض بني وطني حول ما صدر من بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، وتسميتها لأعضاء فريق الحوار ضمن المسار السياسي.
بعض من يدّعي انتسابه لثورة فبراير رفضوا ماصدر، واتهموا البعثة بتغليب حضور الطرف الممثل لحفتر عن طرفهم.
وفى نفس الوقت، بعض أتباع حفتر رفضوا أيضا ولنفس السبب؛ كون البعثة غلبت طرف فبراير عن طرفهم.
لكن ما شد انتباهي أن كلا الفريقين من البداية اتفقوا وتوحدت مواقفهم فى شيء واحد دون أن ينتبهوا، وهو رفضهم للحوار لعدة أسباب أبرزها:
** بعضهم مستفيد من الحالة الراهنة، ولا يريد التغيير.
** بعضهم تعود أن يحكم بالانطباعات لا بالمعلومات.
** بعضهم خائف من أى تغيير، وسياسته مبنية على فرضيات.
** جزء منهم رفضوا؛ لتفاجئهم بغياب أسمائهم ضمن فريق الحوار.
** جزء منهم تحركهم العاطفة وتراهم فى كل وادٍ يهيمون.
** جزء بسيط مصاب بوهم الظهور، وتعود أن يصرح بموقفه حتى وإن كان الأمر ليس من اختصاصه، ولا يحق له الخوض فيه.
** جزء لا بأس به يحركهم الإعلام عبر خطاب يمارس فيه التدليس والكذب والتشويه دون دليل ولا حسيب، سواء فى قناة الحدث أو التناصح وغيرها من القنوات الموجودة خارج ليبيا عبر بعض الصبية المنتحلين لصفة “الإعلاميين”.
** جزء من تيار فبراير تحركهم مواقف الدار المتقوقعة عن نفسها؛ بسبب رفضها الاحتكام إلى أهل الخبرة والاختصاص، خاصة فى السياسة والإصرار على أن مشايخها يفهمون فى كل علوم الكون.
إن الفهم الغائب على كثير من هؤلاء يجعل منهم أصحاب مواقف مسبقة دون أن ينتبهوا، وهو فهمهم لعملية الحوار على أنها مغالبة، وبجب أن تكون مع زيد وليس مع عمرو، ويتمنى الحصول فيها على كل النقاط، وحرمان كل حق للفريق الآخر، وهذا شئ ممكن تحقيقه فى ساحة المعركة فقط، فوحدها تستطيع من خلالها القدرة على سحق خصمك وتجريده من كل شئ إن كان لك قدرة، أما طاولة الحوار والمفاوضات فلا وجود فيها للهيمنة، بل مبنية على التوافق المرتكز على المقاربة، وليس المغالبة.
ليبيا تمر بمرحلة صعبة فى تاريخها والتدخلات الخارجية أنهكتها، وأي تأخير فى المعالجة سندفع ثمنه غاليا، وسيكون على حساب نهضة ليبيا وتأخر استقراراها، وما نعايشه اليوم من حوار هو اجتهاد قام به بعض أبناء ليبيا بعد أن سكتت أصوات البنادق؛ ليتحدوا فى مسارات عدة (عسكرية و اقتصادية وسياسية)؛ لرفضهم استمرار حالة الجمود والفساد والعجز، وعلى من يرفض الحوار أقول له وأنصحه بأن لا يكون مع القاعدين، وأن يترك مقام التنظير، ويتجه للواقعية والعمل في كل ما يساعد على دعم استقرار ليبيا بدلا من التهييج عبر صفحات التواصل الاجتماعي، وبعض القنوات المعروفة بالدفع المسبق.
أخيرا … الليبيون بعد أن أنهكتهم آلة الحرب، وفقدوا خيرة أبنائهم، وخسروا منازلهم، وتقطع نسيجهم الاجتماعي، ولم يعد أحد يستطيع أن يتقدم خطوة واحدة فى جبهات القتال، توجهوا إلى طاولة الحوار؛ ليتفقوا ويتوافقوا، وكثير من الشخصيات المشاركة لا يزايد عليها أحد فى وطنيتها وحرصها، ويجب على من اقتنع بأن نهاية العداوة هي صلح ووفاق أن يدعم ولو بكلمة خير، ويبتعد عن التشكيك والتشويش، فالعبرة بالنتائج وليس بالطعن فى شخصيات معينة ستشارك فى الحوار، وعلى الجميع أن يهتم بالخبز وليس بخبازه، فسياق واقعنا لا يحكم بالأماني والرغبات، وإنما بالعمل والمقاربة، والتنازل فى بعض اللحظات.