جاءت انتخابات حزيران/ يونيو 2012 لتمثل سابقة مهمة في التاريخ المعاصر لليبيا من حيث قوة التنظيم وسعة الإقبال وتعدد الطيف السياسي والفكري المشارك أملا في الفوز بمقعد في المؤتمر الوطني العام.
لكن الاستحقاقات الانتخابية اللاحقة شهدت تراجعا في الإقبال الجماهيري بعد تحول زخم فبراير إلى صراع قاد إلى انقسام سياسي وانفلات أمني مازلنا نعاني ويلاتهما.
وإذا كان عنوان تجربة المؤتمر الوطني التعثر والانتكاس، فقد مني البرلمان بفشل ذريع بعد أن أخفق في أن يكون المظلة التشريعية لجميع الليبيين واتخذ قرارات عمقت الانقسام، ثم عجز حتى عن أن يلتئم لمدة تقترب من العام.
هاتان التجربتان المريرتان قادتا إلى شيوع اعتقاد في أوساط الرأي العام الليبي بأن الخيار الديمقراطي فاشل ولا جدوى منه، وأن إفرازات الانتخابات كانت دوما كارثية، وبالتالي فإن المشاركة في أي انتخابات قادمة قد تكون محدودة لتتكرر تجربة البرلمان الحالي الذي صوت له فقط 16% ممن يحق لهم الانتخاب.
وكان ذلك أحد أبرز أسباب ضعف شعبيته، دون أن نقلل من أهمية تأثير الأزمة المالية ورغبة المواطن في الخروج من الوضع المتردي اقتصاديا والذي قد يشكل حافزا للمشاركة لدى شريحة غير قليلة.
التحدي أمام الانتخابات البرلمانية والرئاسية المزمع إجراؤها نهاية العام المقبل لا ينحصر فقط في الموقف السلبي للرأي العام، فهي تأتي كبديل لانهيار المسار التفاوضي وفشل التوافق، والانتخابات التي يُلتجأ إليها بعد تأزم الوضع لا تكون في الغالب مجدية لأنها تنعقد في أدنى درجات الاستقرار وأعلى مستويات النزاع بل الصراع، فهي خيار استثنائي في مرحلة عنوانها الانقسام الذي ما يزال عرَّابوه يصرون عليه.
ميزة التوافق الحقيقي أنه يعالج ملفات الشقاق وقضايا النزاع بشكل صحيح أو أقرب إلى التسوية، وبالتالي فإنه يجعل من بدائل إدارة السياسة العامة سلسة أو أقل تعقيدا، أما الانتخابات التي تُفرض كآخر سبيل للمعالجة وفي ظل خلافات حادة جدا، إنما تمثل إقرارا بكل مساوئ الوضع الراهن والبناء عليها للتأسيس لمرحلة انتقالية رابعة، فهل نتوقع أن تكون المرحلة الجديدة أكثر استقرارا؟!
من المتعارف عليه أن التوافق عبر سلسلة مفاوضات يتحلى فيها الأطراف بالوطنية وتقديم الصالح العام على المصالح الفئوية أو الجهوية أو الحزبية أو الفردية هو أفضل الخيارات في الأزمات، وهو خيار لا تنقصه درجة من الديمقراطية، لأنه يتم بإرادة شعبية عبر تمثيل كل أو أغلب الأطياف، وتقره الأغلبية ضمنا وهو ما نلحظه من ترقب جموع الليبيين لجولات التفاوض أملا في أن تسفر عن شيء يخرج البلاد من أزمتها المركبة.
كانت أحد عوائق التوافق السياسي الليبي الذي انطلق أواخر عام 2014 أنه لم يمثل كل أو حتى أغلب الأطياف السياسية. وإذا انتقد عدد من المراقبين المحللين والدوليين غياب بقايا النظام السابق عن جولات التفاوض، فإن أطرافا ضمن ثورة فبراير لم يشاركوا فيه، ما جعله وفاق البعض وليس الكل أو حتى الأغلبية.
لقد ظلت معضلة جمع الكل في بوتقة واحدة أو على طاولة حوار جامعة (قادة سياسيين وزعماء قبائل ووجهاء مناطق…الخ) من أهم أسباب ضعف الوفاق السياسي، وأعتقد أن الخلل تركز في الفشل في الدمج بين الوفاق السياسي والمصالحة الوطنية ومرتكزها المصالحة الاجتماعية.
الأمم المتحدة لم تستطع أن تدمج بين المسارين بشكل يخدم أحدهما الآخر ويفعِّل كل منهما صنوه، كما أنها بالفصل بين المسارين لم تنجح في احتواء التداعيات السلبية لكل منهما على الآخر.
بمعنى أن المصالحة الوطنية التي كان من الممكن أن تحقق اختراقا في حالة الجمود العامة وتعالج كثير من الخروقات في النسيج الاجتماعي الليبي تمهيدا لتحقيق الوفاق الشامل سياسيا، ارتهنت للمسار السياسي وظلت المكونات الاجتماعية أداة الأطراف السياسية في نزاعها، ولم تكن إحدى أهم وسائل الدفع باتجاه الوفاق السياسي من خلال تحقيق درجة من الوفاق الاجتماعي.
الانتخابات اليوم تقفز على ما قفز عنه الوفاق السياسي، بمعنى أنه يراد لها أن تجري في ظل الانقسام السياسي والتفسخ الاجتماعي والتهميش والإقصاء المتعمد لأطراف مهمة، وفي ظل مواجهات مسلحة تهدأ لبرهة ثم تلتهب من جديد.
فهل بالفعل تم دراسة الوضع والنتائج المحملة في ظل ما ذكرنا من عوائق أساسية ليتقرر الذهاب للانتخابات ثقة في أنها ستحقق ما عجز التفاوض عن تحقيقه، أم أنه خيار اليائس الذي يريد أن يطوي الصفحة بأي وسيلة كانت؟!
ما يمكن تسميتها بالديمقراطية التوافقية.