كتبت منذ عام تقريبا، عندما هاجم المنقلب “خليفة حفتر” العاصمة الليبية “طرابلس” بمليشياته المرتزقة، مقالا قلت فيه؛ إن معركة طرابلس معركة فاصلة بين قوى الثورة وقوى الثورات المضادة التي تقودها دولتا السعودية والإمارات، مركز الثورات المضادة التي تدار منها المؤامرات على الشعوب العربية بأيد صهيوأمريكية.. إنها الفيصل بين الحق والباطل.
ولأن معارك الحق تطول؛ حيث تتشابك فيها المصالح وتتحد فيها قوى الباطل على مختلف مشاربها وتوجهاتها وأغراضها، لتكون على قلب رجل واحد في مواجهة قوى الحق، والتي غالبا ما تكون ثلة من المؤمنين بربها؛ لذلك طالت معركة طرابلس عاما كاملا ولا تزال مستمرة، ولم يستطع العميد المتقاعد المُختال بذاته، والذي منح نفسه رتبة “المشير” أي “الفيلد مارشال” والتي لا تمنح إلا للقائد الذي قاد الجيوش في الميدان، ولم يكتف بهذا الزيف، بل وضع على صدره الأوسمة والنياشين ووضع خلفه النسر الضخم، وهو المهزوم في الحرب الوحيدة التي دخلها في تشاد وخرج منها مذلولا مدحورا أسيرا..
أعود فأقول، لم يستطع هذا الأسير المهزوم أن يدخل طرابلس على الرغم من أنه أعلن بكل غطرسة في بداية غزوه لها؛ أنه سيحسم معركة طرابلس في غضون أسبوعين على أقصى تقدير. ولقد ذهب به غروره أن يتوقع أنه بمجرد أن يلقي بيانه المقتبس من خطاب سيد الخلق أجمعين النبي محمد عليه صلوات الله وسلامه عند فتح مكة، “من ألق سلاحه فهو آمن ومن دخل بيته فهو آمن”، أن أهل العاصمة سيرفعون الرايات البيضاء كما دعاهم، ويزحفون إليه طائعين ويسلمونه المدينة على طبق من فضة، فإذا بها تتحول لمعركة شرسة يسقط فيها جنوده ما بين قتلى وجرحى وأسرى. واستطاعت قوى الثورة أن تتصدى له وتدحر مليشياته، فلم يجد حلا أمامه غير ضرب المدنيين والمنشآت المدنية.
ثم بعد عام كامل من الهزيمة وتكبد الخسائر، استطاع ثوار طرابلس الأبطال أن يزيدوه خسرانا؛ بتحرير كل مدن الساحل الغربي وحصار قاعدة الوطية ومدينة “ترهونة”، معقله الشخصي والرمزي.
وللتغطية على خسائره العسكرية هذه؛ ما كان منه إلا اتخاذ قراره الهزلي بتنصيب نفسه حاكما على ليبيا وإسقاط “اتفاق الصخيرات” الذي تم إبرامه في المغرب، وحل المجلس الرئاسي والبرلمان، متناسيا أن “شرعية وجوده”، وإني لأحسبها شرعية زائفة، مستمدة من موافقة برلمان طبرق على تعيينه..
وفي واقع الأمر، وقبل تنصيب نفسه رئيسا لليبيا، فهو كان يتعامل مع المجتمع الدولي على أنه الحاكم الفعلي لليبيا، ربما ذلك من فرط غروره أو من ضعف “فايز السراج”، رئيس الحكومة الشرعية المعترف بها دوليا، أو من الدعم اللا محدود (العسكري والمادي واللوجستي والمعنوي) الذي يقدم له من قوى الثورة المضادة؛ والتي تحركها القوى الدولية المتمثلة في أمريكا وروسيا وفرنسا لتحقيق مآربها في ليبيا. ولكل له مطمعه فيها، فإذا كانت الدول الغربية تطمع في بترول ليبيا الذي لا يمكنها الحصول عليه إلا من خلال حاكم عسكري عميل لهم، فإن قوى الشر الأخرى في المنطقة المتمثلة في السعودية والإمارات، تخشى من نجاح الثورة في ليبيا، وأن تنتقل رياحها إليها. لذلك فهاتانا الدولتان تحاربان الثورات العربية وتجهضان انتفاضات الشعوب، أينما كانت في أية بقعة عربية، وتدعمان الحكام المستبدين ضد الشعوب المستضعفة..
لقد نجح المليشياوي “حفتر” الطامع في السلطة في تقديم نفسه على الساحة الخارجية باعتباره خصما للإسلاميين (وخاصة الإخوان المسلمين) في ليبيا، وهو ما أكسبه دعم هذه الدول، وخاصة أنه تربي في غرف الاستخبارات الأمريكية بعد فك أسره في تشاد وتخلي “القذافي” عنه وإنكاره له.
لهذا استطاع فرض نفسه على المجتمع الدولي، بحيث أصبح رقما صعبا لا يمكن تخطيه في المباحثات والمفاوضات حول حل الأزمة الليبية وإنهاء حالة الانقسام على الساحة الليبية، فتقاطرت إليه الوفود من الأمم المتحدة ومن الدول الغربية، وفتحت له الدول أبوابها الرسمية لتستقبله ليس كقائد جيش، فحسب بل كزعيم يحارب الإرهاب، أكثر السلع رواجا في العالم اليوم. وأعلنت بعض الدول مرارا أن وجوده ضروري لمحاربة الإرهاب، مما زاده غطرسة وتعاليا. فهو يستقبل الوفود بكل عجرفة، ولهجته تتسم بالتحدي والتهديد وكأنه “الفيلد مارشال” قائد أقوى جيوش العالم.
لقد سبق أن ذكر المبعوث الأمريكي السابق إلى ليبيا “جوناثان واينر”، في تغريدة على حسابه في تويتر، أن حفتر عبّر له في اجتماعين عام 2016 عن رفضه لأي تمثيل ديمقراطي في ليبيا، وأنه لم يكن على استعداد لإخضاع نفسه لأي حكومة مدنية أو لأي شخص آخر. وأضاف أن حفتر قال له إنه سيحكم بمرسوم حتى تصبح البلاد جاهزة للديمقراطية في وقت لاحق..
تلك هي عقلية وفكر الرجل، لهذا ليس غريبا ولا مستغربا أن ينصب نفسه حاكما لليبيا بالقوة، رغم هزيمته، وهو ليس ببعيد عن فكر القذافي، فكلاهما مريضان ومهووسان بعشق السلطة، غارقان في دماء الليبيين.
غابت ما تُسمى “جامعة الدول العربية” عما يحدث في ليبيا، وعن الجرائم التي يرتكبها المجرم “حفتر”، وعن تنصيب نفسه حاكما للبلاد، كعادتها دائما في معظم الأحداث الخطيرة التي تمر بها الأمة، فضلا على أنها تدار من قِبل الثورة المضادة التي تسيطر على قراراتها، و”حفتر” هو رجل الثورة المضادة في ليبيا..
ولم تكن جامعة الدول العربية وحدها الغائبة، بل غابت أيضا دول العالم الغربي الاستعماري، ولكنه غياب على استحياء، فلم تتجاهله كما فعلت الأولى ولكنها أيضا لم تدن قرار “حفتر”، بل أصدرت بيانات اتسمت بالميوعة السياسية. فبيان السفارة الأمريكية في طرابلس أعرب عن أسفها من القرار، كما أعرب مسؤول الخارجية الروسية عن تفاجؤ موسكو بتلك الخطوة وتحفظها على أي إجراء أحادي الجانب، وأعلن وزير خارجيتها عن أسفه لما حدث. حتى بيان بعثة الأمم المتحدة لم يدن “حفتر”، بل طالب بالحوار بين الطرفين المتنازعين، وأعلنت تأييدها للمبادرة السياسية التي أعلنها “عقيلة صالح”، رئيس مجلس النواب الليبي في طبرق، واعتبرتها إيجابية، في تجاهل تام لما قام به حفتر والذي من شأنه أن يعقد الموقف في ليبيا!
هناك ميوعة عالمية تجاه المنقلب “خليفة حفتر” تظهر في باطنها موافقة ضمنية على هذا الهجوم الحفتري الذي سيخلصهم من الإسلاميين (الإرهابيين). وليس غريبا أن يدعمه “دونالد ترامب” و”إيمانويل ماكرون” و”فلاديمير بوتين” وصبيانهم في المنطقة العربية، فهذا النموذج الحفتري هو النموذج الأمثل الذي يريدونه لحكم البلاد العربية..
أخطر ما في خطوة “حفتر” الهزلية بتنصيبه حاكما لليبيا هو تقسيم ليبيا، وأعتقد أن هذا ما يسعى إليه، وما لجأ إليه مؤخرا من قصف مكثف علي العاصمة طرابلس، واستهدافه مطار “معيتيقة” بأكثر من 80 صاروخا ما أودى بأرواح العشرات من المدنيين، ما هو إلا تصعيد إجرامي وهروب للأمام من هزائمه، ورغبة في تعزيز مكانته لدى حلفائه المحليين والدوليين بعدما اهتزت صورته لديهم بسبب فشله المتكرر.
دونكيشوت ليبيا البالغ من العمر الثمانين، لا يحارب طواحين الهواء؛ بل يحارب شعبه ليحقق حلمه، الذي صار صرحا من الخيال، ولأنه أدرك تلك الحقيقة؛ أصبح مأزوما مذعورا، إذ يشعر أن مصيره غامض ومجهول، ويخشى أن يلقى مصير “القذافي”، ولكي يتجنب هذا المصير، فهو مستعد أن يحرق ليبيا ومَن عليها.
ولا أعول على المجتمع الدولي أن يتصدى لهذا المتهور المجرم ويُوقف إجرامه؛ لكن أعول على الأبطال الليبيين أن يواصلوا نضالهم ضده ويدحروا مليشياته المرتزقة، لتكون نهايته ونهاية قادة الثورة المضادة على أيديهم، ليكونوا عبرة لكل الطغاة المستبدين، ولكل مَن تسول له نفسه كبح جماح الشعوب المتطلعة للحرية والعدالة والكرامة..
المصدر: عربي 21