الآن اتضح الأمر. المشير خليفة حفتر يريد أن يكون إمبراطور ليبيا، لكنه في الواقع هو “دونكيشوتها”.
بعد الإعلان مرارا الهجوم على طرابلس والسيطرة عليها خلال أيام في حين أن قواته راوحت مكانها، يعلن خليفة حفتر من جانب واحد أنه الحاكم المفوض الأوحد لليبيا، بعد أن تكبد أكبر خسائرها منذ أكثر من عام. كلما خسر واقعيا وميدانيا، صعّد في رغباته وأحلامه. يخسر كل مدن الساحل الغربي، ويتعرض للحصار في معقله الشخصي والرمزي في ترهونة، فماذا يفعل؟ يعلن أنه أصبح حاكم كل ليبيا.
لا يستطيع فعليا وواقعيا اقتحام طرابلس، فماذا يفعل؟ فيعلن اقتحامها وتنصيبه ملكا على البلاد بأسرها، وعاصمتها طرابلس.
فماذا سيفعل إن خسر دعم الشرق وحوصر في الرجمة؟ ربما يعلن حينها ضم تونس ومصر إلى إمبراطوريته؟ دونكيشوت ليبيا في نهاية الأمر أعلن نفسه حاكما، وطلب هدنة، وكان من الطبيعي أن ترفضها حكومة طرابلس.
ما يحصل مع المشير حفتر مثير للانتباه، إذ إن الطريقة التي يريد بها الرد على خسارة فعلية في الميدان هي إعلان وهمي عن السيطرة على الميدان.
حالة اليأس تبرز خاصة في استخراج سيئ الصيت محمود الورفلي والذي حاول هباء إخفاءه بعيدا عن الأنظار، وإرساله إلى بني وليد لمحاولة التأثير بكل الوسائل من أجل إخضاع هذا المفصل الاستراتيجي جنوب ترهونة وإرجاعه إلى صف الولاء، إذ يبدو أن أعيان المدينة فهموا في الوقت المناسب أن الوضع تغير، وأن صفحة حفتر تجاوزها الزمن، وأن الرجل “ركب رأسه، وبدأ يحلق بعيدا.
المشير لا يمكن أيضا أن يكون له شركاء، ليس فقط في الغرب بل أيضا في الشرق ومجالات نفوذه الظاهر.
فإعلانه “التفويض” بذلك الشكل الكاريكاتوري المتسرع كشف عن هشاشة العلاقة مع إطاره الداعم. فصمت عقيلة صالح، رئيس مجلس نواب طبرق، عن مبدأ التفويض، ومبادرته السياسية التي ركزت على إحداثيات ما قبل التفويض، كانت مقدمة ظهور الهشاشة.
إعلان قبيلة عقيلة صالح (أي العبيدات)، وما تعنيه من نفوذ اجتماعي وسياسي في الشرق، أن المرجع الحصري للشرعية هو مجلس نواب طبرق، وبالتالي ليس “التفويض”، إنما هو مؤشر يؤكد ما تتناقله مواقع وتلفزات حول رفض عقيلة صالح ومحيطه الاجتماعي المؤثر قرار “التفويض” الأحادي، ويعزز ما يتم تناقله حول إرسال حفتر لمقربين منه من أجل إقناع عقيلة صالح بدعم “التفويض” ورفض الأخير ذلك.
ثم أتى تسريب يوم الخميس (30 أبريل) لتأكيد أننا بصدد تباين واضح، والتسريب في ذاته هو رسالة من الشرق بأن حفتر لم يعد بالضرورة شريكا مقدسا.
طبعا لا يمكن أن ننسى في هذا الحلف الهش موقع “الخضر” وأنصار سيف الإسلام.
ما حدث في سرت لا يمكن اعتباره حدثا هامشيا، فليس سرا أن سيف الإسلام وبعض الخضر حتى إن دعموا حفتر فذلك ليس لإيمانهم بزعامته. ولهذا فإن التفويض يستفزهم في العمق، وهو ما لم يضع له حفتر حسابا، منجرّا وراء غروره الفائق.
حفتر في كل الحالات ليس مجنونا، فهو يعاني من الاندحار ومستقبل غامض، يضاف إليه ضغط حلفائه الذين لا يتميزون بحسن الأخلاق والصبر، خاصة الإماراتيين.
لكنه رغم ذلك ليس مجنونا، وبالتالي هو يحاول القيام ببعض اللعب السياسي، لكن طبعا بميراثه السياسي المحدود والسطحي. يعتقد أن السياسة هي الإعلانات الضخمة المدوية، وأن فقط تكرار الشعارات يمكن أن يغير الاتجاه.
هي سياسة قديمة، سياسة الستينيات التي نشأ وتربى عليها تقريبا.
ورغم ذلك، أعتقد أن من أكبر أخطاء حكومة الوفاق أن تسعى إلى الحسم العسكري الدموي حصرا، عوض إسناد التقدم الميداني بكثير من السياسة، لكن ليست سياسة حفتر والشعارات.. سياسة تفرز عقدا سياسيا جديدا يسمح بالاستيعاب الممكن لقبائل الشرق وفزان.
دعونا نكون واقعيين، ليس هناك حسم عسكري في ليبيا، إلا إذا كان المغزى من ذلك تقسيم البلاد. وحفتر في كل الحالات يلعب على هذا الوتر، وليس من المصادفة إرسال قواته في بداية 2019 إلى فزان ومحاولته استمالة القيادات المحلية، حيث يفكر في كل الحالات في ليبيا ضمن الأضلاع الثلاثة التي تمثلها تاريخيا.
وهو يعلم أيضا أن الأخوين الكاني (“الكانيات”) ولواءهما في ترهونة تورطوا كثيرا في الدماء فلا يمكن لهم عقد تسوية سياسية.
ويعلم كذلك أن التدافع بين الشرق والغرب، بين طرابلس وبنغازي، وصل مستويات مقلقة جدا تطرح حالة انقسام اجتماعي يتجاوز السياسي وبقاء حفتر من عدمه.
لكن قدر ليبيا والليبيين، وخاصة حكومة الوفاق، هو إيجاد ذلك المخرج الآخر، ربما بالتعاون مع أطراف إقليمية لم تتورط في تقسيم ليبيا وضرب مقدرات الشعب الليبي والتآمر عليه بالسلاح والمال.
المبادرة التونسية لوقف إطلاق النار ربما تكون مدخلا، فهي تتم بالتنسيق مبدئيا مع الجزائر.
وجارتا ليبيا من غربها لم تتلطخ أيديهما بالدم الليبي.
نعم فرنسا في الصورة، لكن فقط تكتيكيا لأنها تتوهم بأن حفتر يحتاج فقط بعض الأنفاس للعودة، وأن الوضع لم يتغير جوهريا.
هناك فرصة لإعادة ليبيا على السكة، بإبعاد المنطق الحفتري، لكن بتسوية سياسية شاملة، تجمع كل من يتفق على الحكم بشكل تشاركي وعلى أساس عملية انتخابية حرة.
رغم هذا التخبط الدونكيشوتي، فإن رهانات إنهاء سلمي للحرب مسألة حتمية وليست خيارا، والصراع لن يحسم عسكريا.
هناك مفاصل هشة واضحة في المشروع الحفتري، وأكثر استعجالا في مستويات ترهونة والزنتان، خاصة ترهونة، حيث أن الإصرار على الحسم العسكري مباشرة ليس فقط صعبا، بل سيعطل تفكك التحالف الحفتري.
هنا تتموقع تونس والجزائر للعب دور الوسيط، وليس دولا بعيدة مهجة وموقعا مثل الأردن هنا تتموقع تونس والجزائر للعب دور الوسيط، وليس دولا بعيدة مهجة وموقعا مثل الأردن، كما يرشح من بعض الأخبار.
في الأفق القادم يمنح تردد الشرق، مثلما عبرت مواقف عقيلة صالح والعبيدات وخاصة بجعل ركن الزاوية في مجلس النواب وليس حفتر، إمكانية مبادرة أشمل، يمكن أن تؤدي إلى إعادة توحيد المجلس ونقله مؤقتا (نقل نوابه، وهنا يمكن التقاط رسالة وزارة الداخلية لحكومة الوفاق في بيانها الخميس 30 أبريل التي تتعهد بتأمين عودة النواب إلى طرابلس) إلى مجال تحت سلطة حكومة الوفاق وإيجاد تسوية شاملة كبرى مع ممثلي الشرق.
ودعونا نكون واضحين، لا يعني ذلك أن لا تواصل قوات حكومة الوفاق بمواصلة الضغط العسكري بدعم الطيران التركي (ليس فقط البيرقدار بل أيضا طائرات إف16) ودفاعاته الجوية، وتعديل موازين القوى. إذ إن ما يحصل الآن من تفتت (لحفتر) لا يمكن أن يتم بدون الضغط العسكري أصلا، لكن فقط مع الوعي الكامل بأفق أن النهاية ستحتاج السياسة وليس السلاح، أي المنطق المعاكس تماما للمنطق الحفتري.
طارق الكحلاوي: كاتب وأكاديمي تونسي
نقلاً عن موقع عربي 21