إنّ التطوراتِ التي شهدتها ليبيا في الأسابيع الماضية غيّرت جميعَ الموازين والمخطَّطات في وقت قصير، ولأول مرة منذ بداية الأزمة في ليبيا انقلبت معادلةُ الحرب رأسًا على عقب.
ورغم إعلان وقْف إطلاق النار الذي تمّ باتفاقٍ دوليٍّ جمَعَ بين حكومة الوفاق الوطنية المعترف بها دوليا والجنرال الانقلابي خليفة حفتر؛ فإنّ هذا الانقلابيَّ خُيِّل إليه أنّ انشغالَ العالَمِ كلِّه بجائحة كورونا سيُهيِّئُ له فرصةً ذهبية كي يشنَّ هجومًا شديدًا على طرابلس، فيجتاحها ويُنجز ما تبقّى من انقلابه، وهو يطمح من وراء ذلك إلى الاستيلاء عليها؛ مستفيدا في كلّ ذلك من الضمانات التي يوفّرها هذا الاتفاق.
وفي الحقيقة؛ إنّ هذه الحركة الغادرة جاءت متناسبةً مع نيّة حفتر التي لم تَخْفَ على أحد منذ البداية؛ فالجميعُ اعتاد حِيَلَه ونَكْثَه بالعهود. فرغم أنه اشترك -وهو يتبختر- في مؤتمر ليبيا الذي عُقد ببرلين في يناير/كانون الثاني الماضي، وقَبِلَ رسميًّا قرارَ وقْفِ إطلاق النار؛ فإنّه واصَلَ هجماتِه.
وفي الواقع؛ كان أكبر خطأ فَعَلَه المجتمعُ الدولي -منذ البداية- هو أنّه افترض وجودَ “طرفين متساوييْن” (الحكومة الشرعية والانقلابيين) في الأزمة الليبية، وتصرّفَ كأنّه وسيطٌ يسعى لحلّ خلافٍ بينهما!! لقد كان هذا خطأً فادحًا؛ لأنه في الأصل لم يكن هناك طرفان متساويان في “الحقّ”.
فمن جهةٍ؛ كانت هناك حكومةُ إجماعٍ وطني تشكّلت من خلال انتخاب وتأييد الشعب الليبي، وهي معترف بها من المجتمع الدولي حكومةً شرعيّةً للبلاد، وفي الضفة الأخرى طرفٌ عدوانيٌّ يحاول الانقلاب على الحكومة الشرعية والبطش بها، بواسطة الأسلحة التي سَلَّمَها إليه شخصٌ ما هو ضدُّ الحكومة الشرعية.
بالإضافة إلى أنّ هذا الانقلابيَّ استمدّ شرعيّتَه فقط من قوة الأسلحة التي وضعَتها في يده بعضُ الدول، وخلالَ استخدام هذه الأسلحة وقعت سلسلةٌ من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
وفي مؤتمر برلين للأسف؛ تم التعامل رسميا مع هذه القوة (المفروضة بحكم الواقع) باعتبارها جزءًا شرعيًّا من طاولة الاتفاق، مع تجاهُل جميع الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها هؤلاء الانقلابيون.
ومبدأُ العدالة المثالية يقول: إن امتلاك أيِّ شخص -كائنا من كان- قوةَ الفِعل لا يمنحه الشرعية. ولكن للأسف؛ نجد المجتمع الدولي غير قادر على إيقاف هذه القوة الفعلية التي لا تحترم مبادئ المجتمع الدولي، وحتى لو تحوّلت إلى آلةِ جريمة ضد الإنسانية.
كان واضحًا أنّ حفتر -بالاعتماد على القوة التي يمتلكها- لن يتوقف عن الحرب والإبادة؛ لأن القوى التي تقف وراءه (مصر والإمارات وفرنسا) كانت تحرّضه على الاستمرار، وتحثّه على عدم التوقُّف حتى يتم الاستيلاء على كامل ليبيا. وحفتر لا يستمدّ قوّتَه وشرعيّته من شعبه، بل يستمدها من هذه الدول، ولأجل ذلك فإنّ قوته -مهما بلغت- لن تمنحه الشرعية؛ فشرعيّتُه بمثابة شرعيّة الغُزاة.
وعلى الأرجح؛ فإنّ أولئك الذين ساقوه إلى هذه الحرب قد أقنعوه بأنه سيواجه محاكمةً على جرائم الحرب التي ارتكبها إذا توقَّف، وأنّ الطريقة الوحيدة لعدم مواجهة هذا الموقف هي متابعةُ الانقلاب حتّى النهاية مهما بلغت الكلفة المالية، ومهما كلّف الأمر من أرواح.
لذلك وَجَد -وفق منطقه الخاص- أنّ الامتثال للاتفاقيات الدولية لن يكون ذا جدوى، كما وجد نفسَه في طريق لا رجعةَ فيه، لأن التراجُعَ سيمهّد الطريق لمحاكمته.
ولذا؛ فقد رأى حفتر أن هذا التوقيتَ فرصة سانحة للهجوم على طرابلس وإنهاء المهمة، في الوقت الذي يكون فيه الجميعُ مشغولًا بنفسه في مواجهة كورونا. بيد أنّه قد رأى بأمّ عينه -وبشكل مُؤلِم- أن النتيجة التي مُني بها استندَت إلى حساباتٍ خاطئة للغاية.
إن المثل العربيّ “رَجَعَ بِخُفَّيْ حُنَيْن” ينطبق تماما على الحال التي وقع فيها حفتر الآن؛ لأنه صبّ سعيرَه ولهيبَه على الأهداف المدنيّة من مستشفيات ومدارس وغيرها.
وكأنّه بذلك اجتَلَبَ الهجماتِ المرتدّةَ من طرابلس التي أخسرَته جميعَ المواقع والمدن التي سيطر عليها -خلال قتاله ضد الليبيين- مع المرتزقة، الذين جمعهم من العديد من الدول (السودان وتشاد وروسيا ودول أفريقية) لمدة ثلاث سنوات، وفي وقتٍ قصير جدّا خسرَها موقعًا تلو الآخر.
وعبر هجماتها المضادة؛ تمكّنت حكومةُ الوفاق من استعادة المناطق الواقعة غرب طرابلس (صبراتة وصرمان والعجيلات ومدن أخرى مجاورة لها) بما مجموعه سبع مدن، إضافة إلى استعادة السيطرة على المناطق المحاذية للحدود التونسية.
ولكنّ قوّاتِ حكومة الوفاق لم تتوقف عند هذا الحدّ، بل تتوجّه الآن إلى “ترهونة” (50 كم جنوب العاصمة طرابلس). وترهونةُ -بعد الانقلاب الذي أعلنه حفتر من شرق ليبيا- تعدّ أهمَّ قاعدة في غرب ليبيا ورأسَ حربةِ الهجوم الذي تشنُّه قواتُ حفتر على العاصمة طرابلس. وفي الحقيقة؛ إنّ موقع ترهونة -المحاصَر حاليا- هو محطّ أنظار وآمال الشعب في جنوب ليبيا بأن نهاية حفتر قد أَزِفَت.
إنّ استعادة قاعدة ترهونة من شأنها أن تدمِّر كلَّ الدّعم الذي تلقّاه حفتر من الغرب؛ فقوّاتُ حكومة الوفاق الآن هي المطارِدة التي تتعقّب فلولَ حفتر، ويبدو أنه -بعد الاستيلاء على ترهونة الذي أصبح مسألةَ وقت- ستُواصل حكومة الوفاق زحفها إلى الجفرة في الجنوب، ثم إلى إجدابيا في الشرق، وهي منطقة السيطرة الرئيسية لحفتر.
وقد صرّح رئيسُ المجلس الأعلى للدولة الليبية خالد المشري بأن حكومة الوفاق قامت حساباتها على أساس الإجهاز على جيش حفتر بحلول نهاية رمضان المبارك. ويبدو أنّ الليبيين أيقنوا أنّ إنهاء مسيرة الدموي حفتر -الذي لا يؤمن إلّا بالسلاح- لن تكون إلّا بالقوة، ويبدو أن ليبيا دخلت في مرحلة نهاية حفتر.
وبعد انقلابه ومحاولته غصْب الحكم بالحديد والنار، وبعد أن أفسَدَ كلَّ المبادرات والجهود التي بُذِلت من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي لمنع المزيد من المذابح في ليبيا؛ فإنّ على حفتر الآن أن يدفع ثمن جرائمه ضد الإنسانية.
إنّ الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي قدّما التنازلاتِ لحفتر بغية إيقافه؛ إلّا أنه بدلًا من تقاسُم السلطة حاول الاستيلاءَ عليها جميعا، والواقع أنها كانت مراوغةً ومسألة وقت. ومع ذلك؛ فإنّ كل حسابات حفتر ومخططاته قد أحبِطت بعد اتفاق التعاون العسكري بين حكومة الوفاق الليبية والحكومة التركية.
لقد تُجوهِلت مصالحُ تركيا في البحر المتوسط وكأنّها لا تملك ساحلا طويلا ومياهاً إقليمية في المتوسط؛ فوقّعت الحكومتان التركية والليبية اتفاقيةَ ترسيم الحدود البحرية بما يهدف إلى حماية حقوق البلدين ضمن القانون الدولي، واتفاقيةَ تعاون عسكري؛ فكان ذلك -في الوقت نفسه- خطابا موجَّهًا للانقلابي حفتر ولمن يقف وراءه.
وفي الواقع؛ فإنّ الدعم التقني القوي الذي قدّمَته تركيا لقوات حكومة الوفاق -في مرحلة حَرِجةٍ للغاية- مكّنَها من إيقاف اجتياحِ حفتر أوّلاً، ومنَحَها ميزةَ التفوُّق على قوّاته أيضًا.
إنّ الوجود التركي في ليبيا يهدف إلى إعادة بناء ليبيا وتنميتها وتوحيدها؛ لتكون شعبا واحدا، وأرضا واحدة، ووطنا واحدا؛ لا لهدمها وتجزئتها والإيقاع بين أهلها.
وليس لأحدٍ الحقُّ في أن يستجوب تركيا عن سبب وجودها في ليبيا؛ لأنّ تركيا لم تتسلَّلْ من المداخن والنوافذ كما فعلت روسيا ومصر والإمارات وفرنسا، بل دخلت من الباب مباشرة وبدعوة من صاحب البيت، وليس لها البتّة أيُّ غرضٍ خارجَ تلبيةِ هذه الدعوة.
لَبَّت تركيا هذه الدّعوة وتعاونت مع الحكومة بكل شفافية؛ كي يتحقّقَ في نهاية المطاف هدفٌ أوحد: هو أنّ ليبيا فقط لليبيين، وأنّها لن تتسامح أبدًا مع مدبّري الانقلاب الذين يعملون على سرقة مواردها لحساب الآخرين.
وهذا الخط لا يمكن لحفتر ولا لمشغِّلي حفتر -الذين وضعوه في الميدان لأجل سرقة ليبيا- أن يقتربوا منه أو يتجاوزه. ويبدو أننا سنواصل الحديث أكثر عن قضية ليبيا.