فتح رحيل رئيس تحالف القوى الوطنية الدكتور محمود جبريل باب المراجعة لكثير من المحطات السياسية التي كان التحالف بقيادة جبريل أحد الفاعلين فيه، وتباينت الآراء التي عجّت بها منصات التواصل الاجتماعي واحتدم فيها النقاش وتنوّع بين سطحيّ يصادر حق الترحّم على الرجل أو يُعليه إلى مرتبة الرمزية الوطنية، وآخرَ وجد في المناسبة فرصةً لتصفية الحسابات السياسية، والتبختّر بمواقف الثبات الموهوم على المبادئ، وتقديس الحالة الثورية ومصادرة الاجتهاد السياسي ما لم يخرج من عباءته ويتفتّق من صخرة حكمته.
المراجعة السياسة لمراحل ما بعد ثورة فبراير حتمية ومطلوبة، فهذه التجربة الثقيلة خاض الليبيون غمارها في حالة من الاحتقان والاستقطاب، مع قلة الخبرة السياسية وضعفها بسبب نظام قضى على معالم المؤسسات في وضع فوضوي لم يعرف إلا سلطة الفرد المطلقة، هذه المراجعة ينبغي أن تنطلق في دوائر النخب السياسية -إن وجدت- لتحاول من خلالها تعرّف مكامن الخلل ومواضع الخطأ، وتعيد تقييم المواقف ضمن سياقاتها التي حفّت بها وفرضَتْها، لتكون هذه المراجعة قراءةً منصِفة منتِجة لحالة من الوعي النخبوي في الخطاب السياسي، يكون بديلاً عن الخطاب الهائج لنخبة مأزومة تزيد الوضع تردّياً وتعقيداً.
إن المراجعة السياسية لا ينبغي أن تكون محاولة للمغالبة السياسية بعد التفريط في أدوات السياسة وفقدان القدرة على التأثير في تطوراتها، والالتجاء إلى ستار المبادئ المهترئ زيفاً وادّعاءً لتغطيَ عورة الفشل السياسي، لن تجديَ في تغيير الواقع السياسي الذي يفرض على الفاعلين فيه التعاطيَ معه بناءً على القدر المتاح لتحقيق المصلحة التي ينشدها كلّ فاعلٍ وفق رؤيته وتقديره.
وإذا كان الحديث عن المبادئ في السياسة لا يزيد عن كونه محاولةً لدغدغة مشاعر الجماهير، وحُجّة لتبرير الفشل، فإن تحقيق المصلحة في العمل السياسي لا ينبغي فهمه على أنّه سعي للمنفعة الحزبية أو الشخصية، بل سعيٌ لتحقيق الرؤية الوطنية التي يتبناها الحزب أو التيار، ولا يتنافى هذا مع المصلحة الحزبية أو الشخصية مادامت مؤطّرةً في إطار المصلحة الوطنية العامة.
وبالعودة إلى حديث المراجعة السياسية واستغلالها في المغالبة السياسية، يجدرُ الإشارة إلى أن هذه المغالبة التي اتخذناها بديلاً عن المنافسة السياسية هي أحد أسباب حالة الفوضى وغياب المرجعية الدستورية للعملية السياسية لما يزيد عن التسع سنوات، وهي التي جعلت أطرافاً سياسيةً تستقوي بالعسكر على خصومها، وجعلت أطرافاً أخرى تحاول استدامة الحالة الثورية متخذةً منها حجة لإقصاء كل الخصوم، ومرجعاً للسياسة وحتى للفتوى أحياناً.
وإذا قال قائل أن الهدف من المراجعة السياسية هو محاسبة المخطئين على أخطائهم، فالجواب عليه بأن المحاسبة السياسية ليست إلا للناس ومن خلال صندوق الانتخاب، فوحّدوا جهودكم لتتستقرّ الأوضاع وتنقشع عن الوطن حُلكة الاستبداد، ثم اتركوا للناس محاسبة من أخطأ ليحكموا عليه من خلال صناديق الانتخاب، وكونوا في غنىً بعد ذلك عن مزايداتكم ومنافراتكم ومفاخراتكم وحتى مباهلاتكم.