يمكننا أن نحكم على أولئك الذين يربطون انتهاء الإسلام السياسي بالفشل، على أنهم جاهلون في السياسة قبل أي شيء. السياسة ليست شيئًا يمكن تقييمه عبر النجاح. إن بعض الحركات السياسية حتى ولو هُزمت فإن ذلك لا يعني أنها أنهت مسيرتها السياسية، بل تكون قد أعطت فكرة عن طبيعة موقعها في المشهد السياسي.
إضافة لذلك، هل طريقة قياس نجاح الإسلام في النظام العالمي الظالم القائم اليوم، تعتمد على قياس مدى قدرته على إنشاء مؤسسات يمكنها التنافس مع هذا النظام غير العادل، أم من حيث قدرته على الإطاحة بهذا النظام تمامًا؟.
إن تصريحات الرئيس التركي الحادي عشر، عبد الله غُل، والتي أعلن من خلالها نهاية الإسلام السياسي، لا تعطي أي انطباع آخر سوى مجرد الاستسلام لمعايير النظام العالمي القائم.
من فضلكم أخبروني، هل يعتبر المسلمون اليوم هم المسؤولون عن عدم تنمية الديمقراطية والحكم الرشيد سواء في تركيا أو في العالم الإسلامي؟ هل تعرضت تركيا لعدة انقلابات عسكرية على مدار سنوات، لأنها مثلًا لم تنجح بمزج الديمقراطية مع الإسلام بشكل ناجح؟ ام أنه على العكس، لأنها نجحت بتحقيق هذا الامتزاج على أتم وجه من النجاح والإتقان؟ التدخلات والتهديدات التي طرأت على الساحة التركية اعتبارًا منذ العام 2010 أي مع انطلاقة الربيع العربي، هل حصلت من أجل تطوير الإسلام السياسي كي يكون نموذجًا ناجحًا؟ أم كان هناك حسابات وتقييمات وأحاسيس مختلفة لدى البعض، ممّن رأى في استقلالية تركيا وترسيخها للديمقراطية من خلال الإرادة الشعبية؛ تهديدًا للنظام العالمي؟.
في أي الحالتين كان الإسلام السياسي متجهًا نحو النجاح، أين نبحث اليوم عن الإسلام السياسي؛ في أشواق من، وفي خطابات من، وفي أعمال من؟.
متى توقف سعي المسلمين وبحثهم، عن حياة أفضل واكثر رفاهية وحرية وشرفًا، لهم ولجميع البشرية في العالم؟.
هل بقي المسلمون صامتين أمام ما يتعرضون له اليوم كل يوم في كل أنحاء العالم، من إذلال واضطهاد واحتلال لأوطانهم واستغلال لثرواتهم وترهيب وتعنيف وكراهية؟
كان ولا يزال هناك أصوات وصرخات للمسلمين ضد ما يجري من ظلم بحقهم، كل يوم وفي كل أنحاء الدنيا. أما القول بأن الإسلام السياسي قد انتهى اليوم، فيمكن أن يكون نابعًا من صمم عن تلك الصرخات. لا علاقة للإسلام السياسي بالإدارات “الناجحة أو الفاشلة” لتلك المؤسسات التي يتم تصنيعها في محافل معينة ويتم تسليم مفاتيحها لبعض المنتجين.
الإسلام السياسي هو مقاومة الفلسطينيين الذين تم احتلال أراضيهم. هو بكاء ودعاء أمة بأكملها كي لا تُدنّس قدسية وحرمة القدس ومكة والمدينة. هو اشتياق الأطفال في سوريا للجنة حيث سيجدون فيها الخبز الذي حُرموا منه، بعد أن تدمرت بيوتهم فوق رؤوسهم. هو نضال وكفاح سطره ثلاثة آلاف شهيد سقطوا خلال احتجاجاتهم في مصر على الانقلاب العسكري الذي دمر حقبة كانوا يبحثون فيها عن الحرية والشرف والخبز الكريم. إنه صرخة واستغاثة أهالي إقليم أراكان الفقراء الذين تعرضوا لإبادة جماعية إما حرقًا او غرقًا في ميانمار. إنه نضال تركيا للبقاء على قيد الحياة ومواجهة ألف ألف عدو ومؤامرة، هدفًا في جلب الأمل لكل مظلوم.
ستبحثون عن السياسة بين هذه الأصوات والصرخات والآهات والكفاحات. قبل الصمّ عن سماع تلك الأصوات والصرخات والآهات والكفاحات، وقبل أن تجعل نفسك غريبًا عنها؛ ألا يعتبر هذا إنهاء للإسلام السياسي من قبل أشخاص معينين عاشوا تجربة معينة في تركيا؟ هذا هو العائق الذي يتمثل في سقوط الغالبية العظمى من تحليلات الإسلام السياسي، ولا يوجد مثال أوضح من هذا. الجميع يبدو منغلقًا وفق تجربته الخاصة به؛ ويظن أن العالم غير مرئيّ للآخرين عندما يغمض هو عينيه، وعندما ينتهي شيء بالنسبة له يظن أن هذا الشيء قد انتهى لدى كل العالم أيضًا.
هذا هو الحال بعينه لأولئك الذين يتركون بينهم وبين الإسلام السياسي مسافة، أو أولئك الذين يظنون أنه قد انتهى وولى دون رجعة. في الواقع إنهم بعيدون او منفصلون ربما عن عواطف هذا العالم وتجاربه وازماته وكفاحاته وصداقاته.
هذه الانعزالية التي وقع فيها الإسلاميون في السابق. وهناك انعزالية أيضًا يقع فيها أولئك الذين يرون في أنفسهم “معارضة” للكيان الإسلامي، والذين يحبون بشدة احتمالية انتهاء هذا الكيان، ويسوّقون لأي خبر او تحليل يتحدث عن انتهاء حياة هذا الكيان، جميعهم في الحقيقة يتغذى على الجهل السياسي ذاته.
بما أن الأمر يتم ربطه بالنجاح او الفشل، فعلينا معرفة هذا؛ عندما ينجح الإسلام السياسي في العالم من حيث كونه حركة ديمقراطية ليبرالية تنموية، فإنه لا يحظى بتقدير العالم الحديث، بل على العكس يصبح هدفًا مباشرًا له. حيث يصرّ هذا الكيان العالمي على استهداف هذا النجاح، حيث يعتبره بمثابة حركة مستقلة خرجت عن عصا الطاعة، وتخلصت من سطوة الاستعمار المفروض على الجميع، ولذلك يصر هذا الكيان العالمي على فعل ما يستطيع من اجل الإطاحة بهذه الحركة. ولذلك لم تتمكن “ديمقراطية” الولايات المتحدة وأوروبا، من وصف ما جرى ضد أول رئيس شرعي منتخب في مصر، محمد مرسي، بأنه انقلاب عسكري.
بناء على ذلك، هل يمكن أن نصف مرسي الذي أُطيح به بأنه فاشل، وأن القيم التي كان عليها فاشلة؟ وقد بات يحتلها نظام هو الأسوء على مستوى العالم من حيث الديكتاتورية.
ألن نرى أيضًا تلك السياسة التي لا تزال فائمة، والتي تجسد المقاومة والصمود بوجه هذا الظلم والطيش؟.
بقلم : مستشار الرئيس التركي ” ياسين اكتاي “
المصدر: صحيفة “يني شفق” التركية.