in

السلفيون المداخلة وحرب حفتر على طرابلس

تناقلت الوسائط الإعلامية منذ بداية الحرب على طرابلس وخلال الأسابيع والأيام التي سبقتها فتاوى وخطبا قصيرة وبيانات موجزة ذات طابع ديني تحرض على حرب طرابلس؛ لتخليصها من الخوارج.

حُسبت في البداية أن الوصف مجرد تعبير مجازي للنيل من الخصوم، وبعث إثارة جديدة تبدد السأم من الأوصاف القديمة، المليشيات، العصابات، الإخوان، لصوص المال العام، الخ. غير أن الخطاب في متنه يتحدث بوضوح عن فرقة الخوارج التي ظهرت في صدر الإسلام وكفرت مخالفيها ورفعت السيف ضد كل الدول في العصور الإسلامية الأولى، الثقة التي لمستها في الخطب كانت مغرية لممارسة الخيال.
فرأيت شبيب بن يزيد الخارجي يعتلي دبابة في محور اليرموك، فيما يتأهب قطري بن الفجأة للهجوم على محور المطار حائرا في معالجة غارات الطائرات المسيرة، بينما يقف صاحب الخطبة شاهرا سيفه بجوار المهلب بن أبي صفرة الذي كان يستعد لتلاوة رسالة حملها البريد من الخليفة أبي الصديق بن أبي القاسم بن حفتر الفرجاني.
لا أحد ممن نشروا هذا الخطاب المحرض على القتل وسفك الدماء وتدمير العمران فسر العلاقة أو الرابط بين أهل طرابلس أو حتى ميليشياتها في عام 2019، وبين فرقة سياسية دينية ظهرت زمن الصراع على الخلافة بين الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وملأت الدنيا وشغلت الناس طوال العصور التالية، ثم انتهت واندثرت قبل ألف سنة.
في الحقيقة ليس للأمر أي علاقة بالخوارج، وأغلب من رددوا هذا الخطاب هم من الغوغاء، بضاعتهم في التاريخ قليلة فلا علم لهم بالخوارج وبرنامجهم السياسي، أما الذين تصدروا منصات الترويج مطلقين هذه الحملة الدعائية فهم قادة التيار السلفي في نسخته المعروفة بالجامية أو المدخلية، والتسمية أطلقها خصومهم لذلك شاعت بين الناس، وهم يرفضونها بالطبع، معتبرين أنفسهم أتباع المنهج السلفي الصحيح، غير أن التسميات التي يطلقها المخالفون والخصوم هي التي تنتشر عادة، فخصوم الخوارج هم من أطلقوا هذا الاسم عليهم وسماهم الشهرستاني في الملل والنحل المارقة، أما هم فيسمون أنفسهم الشراة، واشتق اسم فرقة المعتزلة من قول الحسن البصري لواصل بن عطاء شيخ المعتزلة الأول “اعتزلنا واصل”.

ولم يعد متاحا احتكار تسمية السلفية؛ نظرا لتعدد السلفيات بتعدد الاتجاهات والمدارس والأفكار المنسوبة للسلفية، ويلجأ الباحثون إلى اعتماد أسماء الشيوخ إذا اجتهدوا وذاع صيتهم للتمييز بين الاتجاهات المختلفة داخل المذهب الواحد.

من الممكن وبكل بساطة تبيان ضلال وتهافت نعت عامة أهل طرابلس بالخوارج، بل حتى قوات بركان الغضب التي تتصدى للعدوان لا يستقيم في حقها هذا الوصف، فالخوارج هم أول فرقة إسلامية ظهرت بشكل منظم وبرنامج سياسي واضح ومحدد، وقد افترقوا إلى عدة اتجاهات، لكنهم وفقا للبغدادي صاحب الفرق بين الفرق، يجمعون على تكفير الخليفة عثمان والإمام علي والحكمين وكل من رضى تحكيم الحكمين، وتكفير مرتكبي الذنوب، ووجوب الخروج على الإمام الجائر.

فما علاقة أهل طرابلس بالتحكيم والتكفير والخروج وبكل هذه العقائد والأفكار الشاذة. ليس لحرب حفتر على طرابلس علاقة بالخوارج وما جرى في القرون الغابرة، أو حتى بزعمه محاربة الإرهاب أو استعادة الدولة، بل هو الجموح للسلطة والحكم، ومباركة بعض قادة التيار السلفي المدخلي لهذه الحرب يصنف على جهة الدور التاريخي الذي يلعبه الدين حين يتحالف مع سلطة فاشية لأهداف سلطوية بحتة.
مساندة سلطة فاشية صاعدة ليس خاصية ينفرد بها الإسلام، إذ تحالفت كل الكنائس في العالم المسيحي مع الحكام الذين شقوا طريقهم للحكم بكل السبل بما فيها الإسراف في القتل، الكنيسة الكاثوليكية الأم بالفاتيكان ساندت موسوليني في إيطاليا، وباركت الحرب الأهلية التي أشعلها فرانكو في إسبانيا، وعرضت خدماتها على هتلر أثناء صعوده للسلطة في ألمانيا، وتردد في قبولها خشية من توتر محتمل للأكثرية البروتستانتية، وحصل على مساندة الكنيستين في النهاية، وباركت الكنيسة الأرثوذكسية حملة بوتين الأخيرة على السوريين، والأمثلة عديدة لا مجال لحصرها.

منبع الاتجاه السلفي المدخلي هو السعودية المرتبطة بتحالف وثيق مع أمريكا والغرب عموما، ويقدم الإسلام عبر هذا التحالف خدماته حسب حاجة الغرب، فتحطيم الاتحاد السوفياتي تطلب استدعاء السلفية الجهادية وتشجيعها على التوجه لأفغانستان بتعاون مخابراتي سعودي باكستاني أمريكي، ومع انتشار الإرهاب وإعلان أمريكا الحرب عليه أوصى مركز مكافحة الإرهاب في الأكاديمية العسكرية الأمريكية(west point) الحكومة في إحدى دراساته بتبني بعض الشخصيات السلفية وتمويلها. “يمكن لأمريكا أن تمول وبتحفظ بعض الشخصيات السلفية الرائجة كالمدخلي، فتلك الشخصيات تعتبر أكثر فعالية في امتصاص دعم الجهاديين، وأفضل استراتيجية على المدى القريب هي الضغط على حكومات الشرق الأوسط لإتاحة المزيد من المشاركة والرؤية السياسية للمجموعات الجديدة”.

ولعل هذا يفسر لنا تمكينهم من مؤسسة الأوقاف في حكومتي السراج والثني. مع اندلاع الانتفاضات العربية أعادت الحكومة السعودية المداخلة للواجهة ودعمتهم بسخاء، وحرصت على انتشارهم في كل البلدان العربية؛ لمقاومة مد التغيير وضرب الاتجاهات الإسلامية الأخرى المنافسة وفي مقدمتها الإخوان المسلمين، ولكن رغم كل هذا الدعم والتشجيع والانتشار لم يتمكن أي شيخ مدخلي من إحداث أي اختراق لكتلة الجماهير في أي بلد عربي، فلم يتعد تأثيرهم حدود أنصارهم ومريديهم، في ليبيا باءت بالفشل كل محاولاتهم ثني الناس عن الاحتفال بالمولد النبوي وتناول العصيدة، بل ربما زاد الحرص على الاحتفال والجهر به كرد فعل يؤكد رفض أفكارهم ورؤيتهم، مرد ذلك ليس العناد كما يذهب كثيرون وإنما هي حالة الوعي المتقدم للناس والقدرات المعرفية المتاحة في عصرنا لكشف ما لا يظهر على السطح في كل الأيديولوجيات حتى لو أطلقت لحيتها وارتدت مسوح الدين.

تدور الأفكار السلفية في نسختها المدخلية حول فكرة محورية هي الطاعة المطلقة للحاكم باعتباره ولي الأمر، وعدم جواز الخروج عليه مهما كانت الأسباب، ومع أن حفتر ليس وليا للأمر، وليست له أي بيعة لتولي السلطة، بل يمكن اعتباره بالمفهوم المدخلي نفسه خارج على سلطة شرعية أنشأت باتفاق سياسي ليبي بإشراف دولي، إلا أن الحكومة السعودية وجهت المداخلة نحو الاصطفاف إلى جانبه، ومن ثم صدرت الفتاوى تبعا للتوجيه. ومهما حشد المداخلة من حجج وأسانيد بعدم جواز الخروج على الحاكم سيصطدمون حتما بما رواه المؤرخون عن خروج الحسين بن علي، وخروج أهل المدينة على يزيد بن معاوية، فلو كان الخروج غير جائز لما خرجوا فهم سلف وأقرب لزمن النبوة والخلفاء الراشدين.

المعضلة الرئيسية لأغلب الفرق الدينية هي سهولة تحولها من حالة الدعوة بالرفق والمجادلة بالتي هي أحسن إلى استخدام القوة إذا امتلكتها، والمعضلة الكبرى لدى الجانب الآخر هو عسر إقناع من يؤمن بحيازته الحقيقة كاملة أن الحقيقة نسبية، وليست مطلقة وأنه ليس دائما على حق.

يقول الفيلسوف الفرنسي فولتير: من يقول لك اعتقد ما أعتقده وإلا لعنك الله لا يلبث أن يقول لك اعتقد ما اعتقده وإلا قتلتك.

كُتب بواسطة raed_admin

عماري يؤكد استمرار الإصلاحات المـالية والإدارية لقطاع التعليم وضرورة استئناف العملية التعليمية

وزارة التعليم تقرر إضافة 20 إلى 25 درجة للطلبة الراسبين في الشهادة الثانوية