أزمات عدة مرت بها ليبيا وما زال المشوار طويلا، فبدءًا باحتجاجات الوادي الأحمر وبدعة الأقاليم الثلاثة إلى إقفال النفط وكذبة العدادات الغبية التي روج لها حزب تحالف القوى الوطنية، وإعلان انفصال برقة، ثم سلسلة الاغتيالات والإرهاب فى الشرق، ثم انقلاب حفتر الأول (مجمَّدًا) إلى إعلان الكرامة وصولا إلى عدوان العاصمة وغيرها من الأزمات التي كانت شماعة لإزهاق أرواح الليبيين واقتتالهم.
في هذا المقال سأتطرق لمشكلة من نوع خاص أكلت الأخضر واليابس وضربت ليبيا اقتصاديا وأثرث سلبا على كيان الدولة، وعطلت إمكانياتها ومواردها، وسجلت بصمتها السوداء فى كل من : * الاقتصاد الوطني * الاحتياطي العام * مستوى معيشة الفرد * زيادة معدلات الفساد * انتشار الرشوة * غسيل الأموال وتبييضها * تحطيم قيمة الدينار * ارتفاع سعر العملات الأوروبية بشكل جنوني كل هذا وأكثر كان بسبب المشكلة الأفظع التي سأتناولها، وهي طباعة العملة فى روسيا عن طريق مركزي البيضاء .
لقد تولى كِبَر هذه الكارثة علي الحبري محافظ بنك الضِّرَار الموازي، لقد كرس برلمان طبرق المشؤم الانقسام فى كل مؤسسات الدولة، ولم يعترف لا بالحكومة ولا بالبنك المركزي بطرابلس ولا بالمؤسسة الوطنية للنفط ولا بالمناصب السيادية فى الدولة، وأكثر من هذا “شَرْعَن” لحفتر انقلابه وأطلق يده، فما كان من هذا الأخير إلا أن صال وجال وقتل وهجر، ولا صوت يعلو على صوته ولا قوة فوق قوته ولا سلطة فوق سلطته، فما فعله القذافي في أربع عقود بدأ به حفتر قبل حتى أن يحكم مما جعل مصاريفه تتضخم وتزداد تحت شماعة محاربة الإرهاب ودعم المؤسسة العسكرية رغم “الرز” الإماراتي والهبات الملكية والأموال والخزائن التي سرقوها وادّعوا أن مياه الصرف غمرتها .
إلا أن كل هذا لم يكفِ ولم يغطِّ مصاريف العسكري الطامع للحكم، فكانت المشورة السوداء بطباعة عملة ليبية بعيدا عن شروط البنك الدولي والضوابط المتعارف عليها من مطالبات رسمية وتغطية قيمة الطباعة باحتياطيات قانونية، وتوجه البرلمان لهذا الحل مستفيدا من الانقسام الحاصل فى المؤسسة المصرفية ومستغلا سلطاته التشريعية، وأقدم الحبري على فعلته الشنيعة بطباعة مليارات الدينارات في روسيا وبدأ في تداولها، وتحولت الى ثقب أسود لهدم الاقتصاد الليبي باستخدام أساليب رخيصة وتدوير بعض الإجراءات من قبل مرضى النفوس وتجار الحروب والأزمات.
مسؤولية الحبري عن هذه الجريمة النكراء واضحة ويجب أن يحاسب عليها مهما طال الزمن، لكن ما واجب المحافظ الصديق الكبير وهو المعترف به والمؤتمن الشرعي على أموال الليبيين أمام العالم؟ وهو الذي تصب عنده كل الإيرادات والمسؤول عن السياسات النقدية؟ وما الذي قام به الكبير حيال هذه الجريمة؟ للأسف الشديد ما قام به الكبير لا يقل جرما على ما قام به الحبري، ويتمثل بوضوح في عدم تعميمه على كل المصارف بعدم تداول هذه العملة فور صدورها.
ولم أقل هذا الكلام جُزافا فقد قمت بالتواصل مع الأطراف التي عاصرت المشكلة من اللجنة المالية بالمؤتمر الوطني في حينها وبعض المستشارين والمقربين من الكبير، وأفادوا بالآتي، وبعضهم ظهر على الإعلام في حينها وقال شهادته.
ليلة وصول العملة للبيضاء والإعلان عن تداولها أعدّ الصديق الكبير بالتشاور مع بعض مستشاريه وأعضاء اللجنة المالية منشورا يبطل التعامل بهذه العملة، وكان محل اتفاق الجميع على أن يقوم المحافظ بتعميمه صباح اليوم التالي، ولكن للأسف لم يعمم لدرجة أن بعض وسائل الاعلام كانت موعودة بنسخة من التعميم لتتناوله، فما الذي حدث يا ترى؟ لا أحد يدري على وجه التحديد حتى الآن، فالكبير هو الحاكم بأمره في البنك، ولا وجود لشريك معه، فلجنة إدارته معطلة، بل الكبير استغل ظروف الأزمة وصار يتعدى صلاحياته إلى الاقتصاد والمالية وربما حتى التخطيط والرقابة.
لم يوقف الكبير تداول العملة ولو فعل لانتهت القصة من الأساس. للأسف الشديد تدخل بعض أعضاء برلمان طبرق وكان عرابهم عضو معروف عن الأمازيغ وكان في المعارضة مقربا من الكبير وقد لعب دور الوسيط بين المحافظ ومجموعة من البرلمان بحيث يوقف تعميم المنشور الذي يقضي بمنع التداول بهذه العملة مقابل أن يشفع هذا الإجراء للكبير عند البرلمان في تلك الفترة التي كان البرلمان يتباحث فيها لتغيير بعض المناصب السيادية، وعلى رأسها مدير البنك، ولا يخلو من تقديم بعض الحجج الواهية لإسكات صوت الضمير، إن كان له صوت، مثل أنّ ذلك سوف يزيد الانقسام وظروف الناس وغيرها.
إذا السبب الحقيقي أن الكبير الذي ضحى بالمصلحة العامة وأهمل إيقاف هذه الكارثة، وهو من صميم عمله، في سبيل الحفاظ على منصبه واستمراره حاكما بأمره، ولا بأس أن يطمئن نفسه بعد ذلك برسالة وجهها للمجلس الرئاسي يخلي فيها مسؤوليته ويطلب منهم تحمل المسؤولية التي هي أصلا من اختصاصه.
ويا للأسف! فقد نزلت العملة المطبوعة فى روسيا إلى السوق الليبي وطرحت للتداول وأضرت بالسوق الليبي ورفعت سعر الدولار بشكل جنوني؛ لأن من يطرحها للتداول ركز على توجيهها لشراء العملة الأجنبية وسحبها من السوق؛ لأنها بتعبير بسيط أوراق نقدية لم تكلفه شيئا، فبعض المعلومات تقول إن كلفة طباعة مليون دينار هى 35 ألف دولار، بينما المليون نفسه يمكن أن تشتري به 150 ألف دولار، وهذه المهزلة استمرت، وحسب التقديرات فإن ما تم توريده من روسيا يتراوح بين 8 و12 مليارا، وإلى هذه اللحظة لا توجد معلومات واضحة وصحيحة عمّا تم توريده وتوزيعه للتداول.
كانت ستتوقف المشكلة فى بداياتها بإجراء رسمي وقانوني عن طريق بيان من المصرف المركزي طرابلس يمنع فيه تداول العملة المطبوعة فى روسيا؛ لأنه -وببساطة ـ قوة العملة فى تداولها، وعند سحب شرعية التداول منها، فإنها لا تعدو أن تكون أوراقا ملونة لا تملك أي قيمة شرائية؛ لأن النقود قوتها فى مدى تداولها .
هذه الأيام يتجدد الكلام عن محاولة إدخال كميات جديدة من العملة المطبوعة فى روسيا لتداولها فى البلاد من أجل تغطية مصاريف الرجمة، ولو نجحوا في إدخالها من جديد فستحطم القليل مما أنجزته الإصلاحات الاقتصادية، وسيزداد الوضع سوءا وكل ما نتمناه أن تتم معالجة الأمر بحزم، وتغليب مصلحة البلاد على المصالح الضيقة، والاستفادة من أخطاء الماضي، وتحمل مسؤولية التقصير، وقطع الطريق أمام هذا العبث، وخاصة أن دار الإفتاء مشكورة قد أوضحت الموقف الشرعي من طباعة العملة، وأصدرت فتواها بحرمة التعامل بهذه العملة، وما ننتظره الآن هو استصدار مرسوم واضح يسحب الشرعية من هذه العملة، ويمنع تداولها، ولتكن خطوة شجاعة من محافظ مصرف ليبيا المركزي فى طرابلس يذكره له التاريخ ويحفظ بها الدماء التي تسفك بهذه الأموال الملعونة .