منذ أن شنّ خليفة حفتر وعصابته الهجوم الغادر على طرابلس كانت الدعوة إلى إيقاف الاقتتال واستئناف العملية السياسية هو ما يتفق عليه خطاب المجتمع الدولي الذي انكشفت بوضوح مواقف كثير من دوله، وصار جليّاً من يدعم منها خليفة حفتر ومشروعه ويراه الضامن الأقرب لمصالحه في ليبيا.
هجوم حفتر على طرابلس كانت بدايته تتزامن مع زيارة الأمين العام للأمم المتحدة أنتوني غوتيرش إلى طرابلس، والتي كانت لتأكيد الدعم الذي يحظى به المبعوث الأممي غسان سلامة الذي كان سيعقد لقاءَه الجامع بعد عشرة أيام، والذي أُجِّل إلى أجل غير معلوم، وقد توقّع الليبيون أن تكون ردة فعل الأمين العام ومبعوثه الخاص والمجتمع الدولي من ورائهما قويةً وحازمة ضد هجوم حفتر، خاصةً وأنه نسف العملية السياسية التي اجتهد سلامة قرابة السنتين على بناء قاعدة -وإن كانت هشّة- لها، إلا أن انقسام المجتمع الدولي جعل ردّة الفعل باهتة وخالية من أي إجراء يمكن أن يردع حفتر وعنجهيته العسكرية في الوصول إلى السلطة.
الانقسام في الموقف الدولي كشف عن مدى تعطل الإرادة الدولية لإنجاح العملية السياسية في ليبيا، وأنه لا يوجد في الواقع صيغة تفاهم بين الدول المعنيّة بالشأن الليبي لحل الأزمة، وأن دعم العملية السياسية لا يعدو كونه شعاراً ترفعه هذه الدول لتعمل تحته على ضمان مصالحها بدعم من تراه الأقدر على ذلك.
المبعوث الأممي غسان سلامة اكتشف أن التأكيدات التي تلقاها بدعم مساعيه لم تكن إلا تصريحات للاستهلاك الإعلامي، وأن الخلاف في مجلس الأمن عميق ولا يمكن لإحاطاته أن تقرّب وجهات النظر أو ترأب الصدع بين مالكي “الفيتو” من أعضائه، لذلك فقد انخفض معدّل نشاطه بشكل كبير، واكتفى بلقاء رئيس المجلس الرئاسي السراج وتصريحات باهتة تعكس حالة الانقسام في مجلس الأمن وكأن الرجل أدرك أن كل مساعيه التي بذلها ليصل إلى محطته الأخيرة “الملتقى الجامع” باتت في مهبّ رياح الانقسام الدولي.
ولعلنا قبل أن نغادر مسألة انقسام الموقف الدولي إزاء هجوم حفتر على طرابلس يجب أن نقارنه بالإجماع الدولي الرافض للاشتباكات التي شهدتها طرابلس في سبتمبر من العام الماضي، ودعم المجتمع الدولي لمساعي “سلامة” آنذاك التي أنتجت وقف إطلاق النار تم الالتزام به غالب الوقت، ودفعت بالترتيبات الأمنية والإصلاحات الاقتصادية إلى الأمام، ثم فرض مجلس الأمن عقوبات على بعض الشخصيات التي قادت هذه الاشتباكات، فما الذي أدى إلى انقسام الموقف الدولي اليوم، مع أن حرب حفتر على طرابلس أشد ضراوةً وعنفاً وإضرارها بالعملية السياسية بلغ حدّ القضاء عليها؟
يمكن القول إن الدول الداعمة لحفتر ترى في المجلس الرئاسي ورئيسه السراج طرفاً سياسياً يمكن التعاطي معه في الغرب الليبي، وحدوث فراغ سياسي بإنهائه أمر قد يُخرج الغرب الليبي عن حالة السيطرة والتوازن، لذلك تَوَحّد الموقف الدولي للحفاظ على هذه الحالة، أما اليوم فإن حفتر بات على أسوار طرابلس مما يجعل الدول الداعمة له تعرقل أي قرار دولي ضده، وبرغم أن حرب حفتر على طرابلس بدأت بوادر فشلها تظهر ومواقف الدول الداعمة لحفتر تتراجع خاصة فرنسا، فإن الحديث عن ضرورة استئناف العملية السياسية مازال هو الغالب في تصريحات الدول المعنية بالشأن الليبي، فهل من الممكن فعلاً استئناف العملية السياسية؟
وقبل محاولة الإجابة عن هذا السؤال لا بدّ من التساؤل: لماذا لم تتخذ الدول الداعمة لحكومة الوفاق والتي أعلنت رفضها لما يقوم به حفتر إجراءات فعلية ضدّه كتهديد بعقوبات أو فرضها، أو استخدام لهجة أكثر صرامةً وحزماً معه، واكتفت بضرورة استئناف العملية السياسية فقط؟
أعتقد أن هذا الموقف من هذه الدول عائد لسببين:
الأول: تخوّف هذه الدول من عدم قدرة المجلس الرئاسي ورئيسه فايز السراج من السيطرة الفعلية على القوّات التي تواجه عصابات خليفة حفتر على تخوم طرابس، خاصة وأن بعضها كان يعلن صراحة أنه لا يعترف بشرعيته وأن بعضها الآخر كان يمارس نفوذاً عليه، وهذا الأمر يحتاج إلى معالجة سريعة من الرئاسي وإرسال رسائل طمأنة إلى عواصم هذه الدول بخصوصه.
الثاني: أن حفتر يملأ الفراغ الأمني في المنطقة الشرقية بسيطرته الكاملة عليه، غير أن طول أمد الحرب على طرابلس والخسائر البشرية في أبناء قبائل الشرق قد تجعل من هذه السيطرة تتخلخل بسبب التململ القبلي والشعور بعدم جدوى هذه الحرب، وهذا ما يحتم على المجلس الرئاسي العمل على تفعيل خطاب مجتمعي من شأنه احتواء المنطقة الشرقية، والعمل على استقطاب قيادات عسكرية منها.
وبالعودة إلى الحديث عن استئناف العملية السياسية يمكن القول إن استئنافها والأعمال القتالية جارية أمر صعب وغير ممكن، حيث إن حكومة الوفاق في حالة دفاع عن العاصمة طرابلس ومدن المنطقة الغربية ورضوخها لعملية تفاوض يمكن أن يعتبر خيانةخاصة إذا كان التفاوض مع من يصفها وقواتِها بالمجموعات الإرهابية، وعلى فرض إنهاء العمليات القتالية فإن استئناف العملية السياسية لن يكون بالأمر السهل، فكل تدابير بناء الثقة الهشة التي تم بناؤها قد نسفت وصار الانقسام في الأجسام السياسية أكثر رسوخاً وأصبحت مصداقية المجتمع الدولي في دعم العملية السياسية محلّ شك وارتياب مما يحتّم عليه أن يبرهن على أنه أهل لاستعادتها، وربما يكون ذلك بفرض عقوبات على خليفة حفتر وتقزيمه وتحجيمه بما يضمن الحفاظ على العملية السياسية إذا ما تمّ استئنافها.