يقولون: “السياسة فنّ الممكن”، وهي عبارة ربما كانت تحمل شيئاً من البراغماتية، ولكنّها أيضاً تتضمن قدراً من الواقعية تستلزمه الممارسة السياسة، فالخائض في لجج السياسة ينبغي عليه أن يدرك بيئة المعترك الذي يقتحمه، وما هي مساراته ومنعرجاته، كما أنّ عليه أن يدرك إمكاناته وإلى أي مدىً يمكن أن تبلغ به هذه الإمكانات في لجّة السياسة التي كلما خاض فيها المرء زادت عمقاً وعلت أمواجها وربما ألقت به على شواطئ الإقصاء أو أغرقته في دركات الفشل.
لا يمكن للعمل السياسي أن يعرف الاستقرار والنضوج، ويتّسم بالسلاسة والاستمرار ما لم يدرك الفاعلون فيه أهمية العمل من خلال الممكن السياسي، لأن العمل من خلاله يعني حُسن التفهم للواقع والقدرة على التعامل معه من خلال الوسائل والآليات والإمكانات المتاحة، وأما غير ذلك فيعني التخبّط والشلل اللذين سيربكان المسار السياسي ويوقفانه مما يؤدي غالباً إلى تعطّل المصلحة الوطنية وارتخاء يد السلطة وتفكك مؤسساتها والدخول في حالة الانشطار ثم الانهيار.
غياب الوعي بأهمية الممكن في الممارسة السياسة وانعدام محاولة العمل من خلاله في الحالة الليبية لا يخفى على المتأمل لها أقلّ التأمّل، فبعد التغيير الجذري الذي أحدثته ثورة فبراير اعتقد كثير من الناس أن العملية السياسية ستتّم بقدر عالٍ من المثالية وأن الذين سيصلون عبر صناديق الاقتراع سيكونون أشبه إلى الملائكة منهم إلى البشر، ولكنّ الواقع صدمهم بحالة من المغالبة السياسية المحمومة والتنازع المستميت على السلطة عزّزته حالة الفوضى وضعف المرجعية الدستورية وتخلخل المؤسسات وتفككها مع استشراء الفساد وسيادة الانتهازية، وهذا ما انعكس في الوعي المجتمعي صورةً سلبيةً عن السياسة ترفضها وتمقتها وتنفر من أدواتها وفي مقدمتها الأحزاب، مع أن السياسة ضرورة أساسية للمجتمعات البشرية لا يمكن تصورها دونها.
ولأنّ البيئة السياسية مشحونة بهذا القدر العالي من الفوضى والتنازع والصراع فإن كثيراً من الأجسام والتيارات السياسية يُخيّل إليها أنّها قادرة على الهيمنة والاستئثار بنصيب الأسد من السلطة، لذلك فإنها تصرّ على استدامة هذه الحالة من الانسداد السياسي وتستنزف في سبيل بقائها من عمر الوطن ومقدّراته وتقتات على معاناة الناس وآلامهم، وفي نفس الوقت تتجاهل حقيقة أنها غير قادرة بإمكاناتها الحالية على البقاء في ميدان السياسة، وأبرز من ينطبق عليه هذا الأمر اليوم مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة.
أيضاً فإن تجاهل الإمكان السياسي هو ما يدفع شخصية مثل حفتر إلى الإصرار على اتخاذ مشروع العسكرة مطية يسعى أن يبلغ بها السلطة –وما أحسبه ببالغها-، لذا نراه لا يفتأ باحثاً عن حربٍ يشعلها هنا وهناك ليبررّ وجودَه، وليدّعيَ أنه ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها، متناسياً أن إمكاناته لن يدركَ بها أكثر ممّا أدرك.
والممكن السياسي أيضاً غائب عن أذهان كثير ممن يُحسَبون على تيار الإسلام السياسي، أولئك الذين ينطلقون في خطابهم السياسي من منطلقات الحلال والحرام، وكأن منافسيهم ومُناوِئِيهم في ميدان السياسة ينتظرون فتاويهم ليعملوا بها، نعم، ربما كانوا ينتظرونها ليستخدموها ضدهم في دعاية التشويه والتحريض، لقد غاب عن هؤلاء أنهم ليسوا في ميدان السياسة وحدهم، وأن السياسة مبنية على التنافس والتدافع السياسي، وأن المرجعية الإسلامية في السياسة إنما هي الموازنة بين المصالح والمفاسد، وربما كانت الموازنة بين المفاسد أيها أشد ضرراً فيقدم الأخف على الأشد، كما أن النظرَ إلى المقاصد واعتبارَ المآلات هو ما يميّز فقيه السياسة عن فقيه الأحكام.
الأجسام السياسية الوليدة هي الأخرى تقحّمت ميدان السياسة بفورة من الحماسة أعمتها عن إدراك إمكاناتها، فاعتقد أنها هي التي ستبني البيئة السياسية وفق مرادها دون أن ينافسها فيها أحد، معتقدةً أن اجتماعاً أو ملتقىً ضمّ أشتاتاً من الناس يجعلها ممثلةً للشعب حائزةً على ثقته مفوَّضةً من قِبله، وهي في واقع الأمر على هامش مشهد السياسة لا تملك من أدواتها شيئاً.
إن الممكن السياسي في واقع السياسية الليبية محدودٌ جداً وضيق في ظلّ تنازع وتغالب داخلي، وتنافس وتجاذب إقليمي ودولي، وهو ما يحتّم على كل الأطراف السياسية إدراك إمكاناتها وحجمها في الميدان السياسي، والعمل من خلاله على خلق بيئة سياسية مستقرّة وناضجة تجعل العملية السياسية موثوقة بمرجعية دستورية واضحة ومؤسسات راسخة، بدل الاستمرار في حالة التخبط الناتج عن أوهام التضخيم السياسي وخيالات السيطرة والسطوة التي لن نجني منها إلا إطالة أمد الأزمة.
المصدر: ليبيا الخبر