in

على مشارف الحولية !

هكذا نكون قد اجتزنا حولا ثالثا على التوقيع النهائي على انطلاق العملية السياسية السلمية في ليبيا، كبديل عن صراع مسلح أهوج انفلت زمامه فبادر العقلاء في كلا طرفي الصراع إلى الجلوس على طاولة السياسة، والإصرار على نزع فتيل الاحتراب والفناء بين أبناء المجتمع الواحد.

تم التأسيس السياسي لانطلاقة العملية السياسية في الصخيرات على خلفية معالجة الاختراقات الأمنية التي تسببت فيها محاولات الانقلابات العسكرية والسعي لفرض سيطرة مليشيا القعقاع والصواعق والمدني على العاصمة، حيث تم إحباط المخطط بعملية أمنية استهدفت احتواء خطر وجود تلك المليشيات المنفلتة والتي أعلنت انقلابها بكل صلف وعنجهية من ميدان الشهداء بالعاصمة ممهلة السلطات العامة المنتخبة في ليبيا يوم 2012/7/7 مدة خمس ساعات قلصت إلى ثلاث ساعات على لسان قادة تلك المليشيات؛ الأمر الذي عجز معه المبعوث الأممي الدكتور طارق متري عن إقناع تلك المليشيات بخطورة هكذا خطوة، وأنها ستدخل العاصمة في بحر من الدماء، ولكن أحدا لم يستجب له، فانطلقت عملية أمنية خاطفة لاحتواء خطر وجود تلك المليشيات في معسكرات دخل العاصمة ومطار طرابلس الدولي معتبرة أن وجودها في المطار يمنحها تفوقا نوعيا أفضل من ألف وزارة على حد تعبير قادتها.

لمّا شعرت مليشيات القعقاع والصواعق والمدني والمليشيا المتمركزة في المطار بقرب ساعة دحرها وإخراجها من العاصمة قامت بقصف خزانات الوقود في طريق المطار، وقصف الطائرات بقواذف الأربيجي، وتفخيخ المطار وإضرام النار فيه بغية عرقلة عملية ملاحقتها، وولت هاربة في اتجاهين غرب وجنوب العاصمة.

تم التوقف عن تتبع فلول المليشيات الفارة إلا أنه ولسعة مجال المواجهات اندلعت مواجهات غرب العاصمة على طول الطريق حتى الزاوية لتجعل من منطقة ورشفانة ساحة حرب، بل ولتتجاوزها إلى منطقة الوطية والناصرية ورأس اللفع، وفي ضوء تقدير الموقف الذي كشف أن حسما عسكريا غير ممكن، وفداحة استمرار وتوسع مجال المواجهات المسلحة، فكان لا بد من حل!، ولم يكن هناك من بديل منطقي عن ضرورة الذهاب إلى طاولة الحوار والبحث عن مخرج سلمي.

كانت هناك قوى تعارض مثل هذه الخطوة، على رأسها كان المفتى ودار الإفتاء ورئيس المؤتمر الوطني وتيار من أنصاره داخل المؤتمر، وكذلك بعض رموز وقيادات جماعة الإخوان المسلمين الجناح المتشدد، عارضوا وبشدة توجه حزب العدالة والبناء إلى الدفع في اتجاه الجلوس على طاولة السياسة بدل توسع وارتفاع وتيرة الصراع المسلح، ومعارضة فكرة نقل المواجهات إلى خارج العاصمة طرابلس، والاكتفاء بتحصين العاصمة ضد أي خروقات أمنية تحاول المليشيات المنفلتة خلقه في تحصينات العاصمة.

بادر قادة ميدانيون من لواء الحلبوص ولواء المحجوب بإطلاق مبادرة هدنة ووقف إطلاق النار في منطقة ورشفانة، تلقفت قيادة حزب العدالة البناء المبادرة بحماسة وشجعت على هكذا خطوة، وجمعت قادة المحاور في ورشفانة مع الدكتور العمراني ـ عليه رحمة الله ـ ممثلا لدار الإفتاء، وبمشاركة بعض أعضاء المؤتمر الوطني عن جنزور وصبراتة وطرابلس، ولجنة الصلح والتواصل التي شكلها المجلس المحلي مصراتة في حينها، ووضعت نتائج تلك الورشة في ورقة، قام المفتى برفضها معتذرا بأن الوحيد الذي يملك سلطة مثل هذه المبادرة هو ولي الأمر، والذي صار في نظر المفتى ينحصر في شخص رئيس المؤتمر الوطني بعد أن كان قد قال، في تصريح سابق له، إنه المؤتمر الوطني كله وليس شخص الرئيس، وكان هذا أحد التحولات البارزة في المواقف السياسية للمفتى لها ما بعدها!.

قامت قيادة حزب العدالة والبناء بممارسة دورها السياسي من منطلق أن هناك فارقا جوهريا بين مبررات انطلاق الحرب وبين مبررات استمرارها، وليس هناك ثَمّ من رابط موضوعي بينهما؛ من أجل ذلك عملت بحماسة وجدية في إطفاء الحريق في ورشفانة والوطية، ودفعت بكل قواها من أجل دفع المؤتمر للذهاب للصخيرات، حتى بات واضحا لكل ذي عقل أن خط الحزب صار مصادما للخط السياسي لدار الإفتاء وقيادة المؤتمر الوطني العام، ولكنها نجحت في نهاية المطاف في جر الكثير من العناصر التي كانت تعرقل الحوار داخل المؤتمر الوطني، ليتحول موقفها إلى عناصر مؤيدة وبشدة للحوار، مثل التحول الذي طرأ على موقف الرئيس السابق للمجلس الأعلى للدولة، وهي خطوة أشادت بها بعثة الأمم المتحدة وممثلو الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة والاتحاد الأوربي، وعبّروا عن امتنانهم لها كخطوة على الطريق الصحيح من أجل حلحلة الأزمة الليبية.

الخلفية السياسية لاتفاق الصخيرات

لقد كانت الصخيرات خطوة في غاية الوضوح بالنسبة لقيادة حزب العدالة والبناء، فهي البديل السياسي السلمي عن الحرب والاقتتال، وأن طرفا فيها لم يعتبر الطرف الفائز، فهي ليست اتفاق استسلام كما نظر إليه التيار المتشدد عند نقده لمخرجاتها، وكيف أنها لم توجه ضربة قاصمة للطرف الآخر، كما أن التوقيع حينها لم ينل رضى كل الأطراف الإقليمية بدون استشناء، بل بلغ الأمر ببعض تلك الأطراف إلى أن طعن في نوايا قيادة حزب العدالة والبناء على أساس أنها لم توقع بالأحرف الأولى إلا بعد أن قبضت ثمن التوقيع من بعض الأطراف الدولية، وعندما وجه السؤال لقيادة الحزب يومها: لماذا هذا الموقف المتشابه من الأطراف الإقليمية بعكس موقف الأطراف الدولية الداعمة؟ فكان الجواب: لأن الاتفاق في حقيقته يقوم على أجندة ليبية وليس أجندة خارجية، باستهداف إنهاء الصراع والانقسام وحالة الاستثناء، وأنها أعطت اعتبارا لوجود كل أطراف الصراع التي قبلت بالانخراط في العملية السياسية ولم تنكفئ على نفسها فارضة على نفسها عزلة اختيارية غير مبررة، اُكتشف اليوم 2018 أن ذاك الموقف كان خطأ سياسيا تاريخيا فادحا.

في ظل التجاذبات والاستقطابات الحادة عادة تبرز الشخصيات التي عليها أقل قدر من الجدل، وعادة لا تكون الشخصيات الجدلية في الطليعة، هذا من أجل أن لا يشعر أي طرف بأنه الطرف الخاسر، وأن خصمه هو من استحوذ على زمام الأمور، وبدون “طوباوية”، كان في ظل معطيات عشية توقيع الاتفاق السياسي، أن مقتضى الحصافة السياسية أن يدعم الاتفاق على الرغم من كل ما يمكن أن يقوله فيه أي من أطراف النزاع، ولكن مع الوقت بدأت تتبدد شكوك الشكوكيين شيئا فشيئا، بعد عدة محطات اختبر من خلالها وقوف المجلس الرئاسي على نفس المسافة من الجميع، الأمر الذي كان يشكل التحدى الأكبر أمام صمود العملية السياسية، وكان ينذر بإفشالها، ووفر بذلك الاتفاق السياسي إطارا ومرجعية سياسية يتعامل معها على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، ولكن ظلت هناك عرقلة شديدة من الأطراف المستفيدة من حالة الفوضى وعدم الاستقرار في ليبيا محليا وإقليميا، مما جعل نار المواجهات ما إن تخمد حتى ينفخ في جمرها تحت الرماد فتقوم من جديد، تارة في بنغازي، وتارة في درنة، وثالثة في الهلال النفطي، ورابعة في الجنوب، وخامسة غرب العاصمة، وأخيرا الهجوم الأخير على العاصمة الذي أُحبط بسبب موقف الأسرة الدولية من الاعتداء على العاصمة وتجريم قادته ومن يقف وراءه، وكانت قيادة حزب العدالة والبناء واضحة في موقفها تجاهه معتبرة إياه عملا إجراميا غير مسؤول، في الوقت الذي سكتت عنه دار الإفتاء على غير عادتها بل برره المفتى بقوله إنه بسبب الأوضاع الاقتصادية، وكأنه ثورة جياع في نظره.

جيوش من المغردين وقنوات الفتنة والتحريض على استمرار حالة الفتنة والاقتتال ما انفكوا يبشرون بانتهاء الاتفاق السياسي وقرب العودة إلى الخنادق والبنادق والمحاور، ولكن كان هناك تصميم وتماسك من أطراف الحوار أن ذلك مصير عدمي رغم العراقيل التي يواجهها الاتفاق، وصارت الصخيرات عنوانا سياسيا لجميع الفاعليات الدولية والأممية، وصارت تقرُب شيئا فشيئا من تعزيز خيار الدولة على الرغم من كل شيء عبر سياسة إنهاء الانقسام، وإنهاء جميع الأجسام القائمة والذهاب إلى الاستفتاء والانتخابات لتدشين مرحلة استقرار مؤسسة الدولة، وانتهاء حالة الاستثناء التي مرت بها البلاد منذ سقوط نظام سلطة سبتمبر.

هل اتفاق الصخيرات مثالي؟

اتفاق الصخيرات يعتبر أكثر نضجا من الناحية السياسية والاجتماعية من دستور 51، الذي وضع في ظروف انقسام هو الآخر، ولم يحصل عليه حينئذ استفتاء شعبي، بل حتى اللجنة التي وضعته كانت معينة ولم تكن منتخبة من الشعب، وكان هناك تنازل واضح من أجل المحافظة على استقلال كل أجزاء التراب الوطني، وكذلك ساعد على إنجاحه وجود قوة عسكرية واحدة في البلد، هي الجيش الثامن الإنجليزي في الشمال، والجيش الفرنسي الحر في الجنوب، مما فوت فرصة حدوث اشتباكات تعرقل الدستور حينها، وهكذا وفر اتفاق الصخيرات إطارا ومرجعية سياسية لكل من يرفض النزاع الدامي المسلح، وينحاز إلى الحلول السياسية، ويرفض حكم العسكر وينحاز إلى الحكم المدني، وعلى الرغم من الدعم الإقليمي الذي تلقاه أطراف النزاع إلا أن تماسك الاتفاق واستمراره ـ كان ولا يزال ـ ضمانة مدنية سياسية لحل المشكل الذي كانت تعاني منه البلد على مدار أربعة عقود ونيف استبدادا عسكريا فرديا، وعلى مدار السنوات السبع بعد ثورة فبراير فوضى عارمة نتيجة لعدم وجود بنية تحتية وأعراف سياسية في البلد، وصار لزاما بناء الإطار الديمقراطي لمؤسسة الدولة في نفس الوقت الذي تواجه فيه البلد خطرا غير مسبوق متمثلا في الجيوب الأمنية التي خلفتها محاولة الانقلاب العسكري مما أفسح المجال أمام الإرهاب ليطل برأسه ويحاول فرض سيطرته على الإقليم في درنة وبنغازي وسرت وصبراتة أي احتلالا أجنبيا صارخا.

لعبة الأطراف الإقليمية

لعل بعض الأطراف الإقليمية نظرت إلى ليبيا كمنافس اقتصادي قوي لها لو استقرت الدولة، وتمكنت من حسن إدارة مواردها، لذلك عملت تلك الأطراف على عرقلة كل محاولات الاتفاق بذريعة واهية أو بأخرى، وبدعم مباشر بلغ حد المشاركة في شن غارات جوية على المدن الليبية، وتزويد أطراف الصراع بما تحتاجه من سلاح وذخائر وآليات لخوض الصراع المسلح والمحافظة على حالة الفوضى، لشعور تلك الأطراف المحلية بأنها تجني من الفوضى ما لا يمكنها جنيه من الدولة، وتقاطعا في نفس الوقت مع رغبة القوى الإقليمية التي تنظر إلى ليبيا كمنافس قوي قد يبلغ إلى درجة أن يكون بديلا عنها قريبا من التخوم الجنوبية لأوروبا والشمال الأفريقي، وأفضل همزة وصل بين الشمال والجنوب، ولك أن تتخيل ما قد يوفره ذاك التموقع من عناصر تفوق تنافسي نوعي، لو وجدت المؤسسة والاستقرار والأمن.

البديل عن الصخيرات والعودة للمربع الأول

قد يتخيل البعض أن العالم ليس فيه من مشكلة أخرى غير المشكلة الليبية، بل لم يلتفت الكثيرون إلى الحظ الذي خدم الملف الليبي لينال كل ذاك القدر من الاهتمام من المجتمع الدولي، ومن لا يعرف كيف عليه أن ينظر فقط في مآلات الملف العراقي والسوري واليمني كي يدرك حجم الاهتمام الذي أولاه المجتمع الدولي للملف الليبي، وأن المجتمع الدولة لو أراد لترك الليبيين لمواصلة حالة الاحتراب والذي تسبب اتفاق الصخيرات في تجريمها ورفض المجتمع الدولي لمدها بالسلاح على الرغم من كل المحاولات المستميتة هنا وهناك، وأن العبث الإقليمي من الأشقاء لا يلقى دعما دوليا وأنه سيؤول إلى الانتهاء والتحجيم، ولم يكن يمده بأسباب الحياة والبقاء والاستمرار سوى الأطراف الليبية المتصارعة والباحثة عن الدعم المادي الذي توفره الأطراف الإقليمية.

هل سيصل الاتفاق السياسي إلى المحطة النهائية؟

نعم بدون شك سيصل؛ لأن فكرته الأساسية هي تجريم الحرب وإدانة فكرة محاولة فرض السيطرة بقوة السلاح، وأن هذا هو المخرج الوحيد المنطقي أمام الليبيين طال الزمن أم قصر، بهذا الشكل أو ذاك، ومهما يكن من أمر فإن لب وجوهر اتفاق الصخيرات يبقى هو : إنهاء حالة الحرب والذهاب إلى استفتاء وانتخابات وإلغاء حالة الانقسام السياسي والأمني والعسكري والمؤسسات الرقابية والمالية للمحافظة على الدولة الليبية، حتى مع زيادة خطوات إضافية سيحتفظ الاتفاق السياسي بجوهره ذاك، وهو رفض الحرب والذهاب إلى المدخل السياسي الذي لا بديل عنه لحلحلة الأزمة الليبية.

كل عام وأنتم على وطن وسلام وأمن.

المصدر :  الصفحة الشخصية للكاتب صلاح الشلوي

كُتب بواسطة raed_admin

أهالي محتجزين ليبيين في السعودية يهددون باللجوء للأمم المتحدة للإفراج عنهم

الوطنية للنفط تعلن حالة القوة القاهرة في حقل الشرارة