تباينت آراء القراء لمقالي الأخير “استرجاع الحزب وانفراج المدرستين”، ما بين مادح وقادح أو شامت ومحزون، ولم يكن قصدي أي شيء من ذلك. هناك من قال إن المقال حرك الماء الراكد، وهناك من رأى أن المقال فيه الكثير من الصواب لولا الجزئية التي تخص الجهوية والتي أغضبت كثيرين. وبالرغم من أنني ذكرت جل محتويات المقال في مقالات متفرقة إلا أن جمعها في مقال وجدلية التوقيت كان مفصليا في الأعاصير التي تلته.
انحصر النقاش المعلن منه والمضمر على الخاص، في خمسة مآخذ، سأتحدث عن أبرز هذه المآخذ التي تحدث عنها بعض الأفاضل، وأتجاوز عن الذين تجاوزوا الأدب والأخلاق.
البيان الداخلي
رأى البعض أن الحديث عن البيان الداخلي هو هتك للأسرار ونشر للخصوصية، وهذا لعمرك من مخلفات المرحلة السرية التي مضت إلى غير رجعة، وما زال البعض حبيسي تلك المرحلة بل لعلهم وقفوا هناك وتركهم الزمن وصاروا خارجه.
جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني وهي تحت طائلة القانون، وكان من الأجدى، أن تنشر بيانها هذا؛ لحث كل الليبيين على الالتحاق بالأحزاب وتجديد عضويتهم فيها، من أجل إنضاج التجربة الحزبية في ليبيا، وليتها نظمت ندوات وورش عمل عن أهمية العمل الحزبي وضرورته في الحياة السياسية الليبية المعاصرة.
من المسلمات في الحملات الانتخابية أن يتم السعي إلى تشجيع الناس على التسجيل أو تجديد العضوية، ومن المسلمات أيضا أنّ من يقنع الناس بالتسجيل أو التجديد سيحصد أصواتهم إذا ما تقدم للانتخابات، ومحل اعتراضي على بيان الجماعة أنه كان داخليا وليس معلنا، مما شكك في وجود شبهة الكتلة التصويتية الموجهة.
الاستحقاق الانتخابي القادم داخل حزب العدالة والبناء
أي مؤسسة لا تحترم لوائحها وأعضاءها ستتبخر، وأي شخص يدعي الديمقراطية ولا يقبل نتائجها قاصر ويؤسس للاستبداد في المؤسسة.
بعد أن قدمت استقالتي رسميا من حزب العدالة والبناء في نوفمبر 2016، اتصل بي الأستاذ محمد صوان وطلب مني اللقاء لثنيي عن الاستقالة، وبالفعل التقيت به في نفس الشهر وبينت له أسباب الاستقالة، والتي كانت شخصية، وقدمت له بعض المقترحات حول تطوير الحزب، ومما ذكرت له في حينها أنه يجب أن تجرى الانتخابات في موعدها.
انبرى حامل لكتاب الله في الدفاع عن قيادي مترشح لرئاسة الحزب، بيني وبينه احترام واختلاف، ولم أقصده في مقالي ولم أتحدث عنه حين كتبت المقال، وأحسب أنه ينتمي إلى المدرسة المغاربية في تقييمي، إلا أن حامل القرآن هذا رماني من وراء جدر في صفحة على الفيسبوك؛ هو المشرف عليها؛ أنني أخشى ضياع مصالحي التي ترسخت في السنوات الست الماضية، والله يعلم أن هذا من البهتان البيّن.
المدرسة المغاربية والمدرسة المشرقية
لم يفهم البعض قصدي، عندما ظن بهذا التقسيم أنني أقصد الشرق والغرب الليبي، ولربما ساهم في هذا الظن حين أسقطت هذا التقسيم على الواقع الليبي، وأضفت أن أغلب المنتسبين لهذه المدرسة من إحدى جهات ليبيا، وأغلب المنتسبين للأخرى من جهة أخرى.
أقصد بالمدرسة المغاربية الرؤية الفكرية والإصلاحية للإسلاميين في دول المغرب العربي؛ تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، وأقصد بالمدرسة المشرقية الرؤية الفكرية والإصلاحية للإسلاميين في دول المشرق العربي وبالذات رؤية حركة الإخوان المسلمين في مصر، ومن الطبيعي أن يقع الجدار الفاصل بين المدرستين في ليبيا.
المدرسة المغاربية وبالذات في المملكة المغربية أسست على الفكر المقاصدي الذي نما وترعرع في الأندلس، وفي جوارها المغاربي، واستفاد من أدبياتها حزب العدالة والتنمية، الحزب الحاكم في تركيا، ومن أبرز علمائها اليوم الدكتور أحمد الريسوني الذي ينتمي إلى حركة التوحيد والإصلاح المغربية.
هذا الفكر المقاصدي سمح لهذه المدرسة بفتح باب التحديث والتطوير على مصراعيه. بينما أصيبت المدرسة المشرقية بجرعة سلفية، جمدت نظرها عند ظواهر كثير من نصوص الشرع، ووقائع التاريخ، وحبست نفسها في رسائل الإمام والهياكل القديمة. ومن رواد المدرسة المغاربية في ليبيا الشيخ سالم الشيخي والشيخ ونيس المبروك وكلاهما من الشرق الليبي.
تعطيل المراجعات
من اللافت أن الذين تقدموا بمقترح المراجعات لجماعة الإخوان المسلمين الليبية هما الأستاذ سليمان عبدالقادر والشيخ ونيس المبروك وكلاهما ينتميان للمدرسة المغاربية ومن الشرق الليبي، وجل -إن لم يكن كل- من اعترض على نتيجة المراجعات وعرقلها، ومنع خروجها هو من الشرق الليبي وممن ينتمون إلى المدرسة المشرقية.
هذا بالطبع يخص المراجعات المتعثرة في داخل الإخوان، ولكن بالنسبة للرافضين لتوجه القيادة الحالية لحزب العدالة والبناء فهم أكثر تنوعا، وذلك لأن الاعتراض متعلق بمواقف سياسية وليس بتوجهات فكرية أو استراتيجية؛ مثل الموقف من الصخيرات، والحرب على بنغازي ودرنة، والهجوم على العاصمة، والانفتاح على المخالفين من النظام السابق والكرامة، والاعتراض على المواقف السياسية من حقهم داخل الحزب السياسي.
الجهوية.. دعوها فإنها منتنة
كما ذكرت يقع الجدار الفاصل للمدرستين المغاربية والمشرقية في القطر الليبي، ومن الطبيعي أن يكون جل المنتمين للمدرسة المشرقية من الشرق الليبي بسبب النشأة والجغرافيا، وهذا لا يمنع أن يكون هناك العديد ممن يؤمن بالمدرسة المغاربية من الشرق الليبي. هذا التقسيم الجغرافي قد يتداخل مع أسباب أخرى، لا يتسع المقام للخوض فيها.
وهذا التقسيم وإن كان اليوم بات واضح المعالم، والآثار لمن يتابع الساحة السياسية في الوطن العربي، إلا أن كلا طرفيه ينتمي إلى فضاء فكري واحد، ولذلك تتداخل الأطروحات فيه، كما يتداخل الانتماء الفكري للأفراد فيه، فنجد في نهاية المنطقة المغربية غربا من يتبنى أطروحات المدرسة المشرقية، ونجد في أقصى الشرق العربي الإسلامي من يتبنى أفكار المدرسة المغاربية.
كان ينبغي، برأيي، أن يتأسى الإسلاميون في ليبيا بالمدرسة المغاربية أو يؤسسوا لأنفسهم رؤية فكرية جديدة، تراعي واقعهم المحلي، وتجمع بين المدرستين، وتستفيد من الخصوصية الليبية، ومن التجربة الإصلاحية المحلية ذات الجذور العريقة، شرقا، وغربا، وجنوبا، ووسطا، ولكن المخاض الحالي لم يحسم هذا الجدل وتمت عرقلته.
لم يكن وصفي لحالة التشدد مرتبطا بالجغرافيا بقدر ما هو مرتبط بالمدرستين واختلافهما، وحينما استخدمت هاتين المدرستين نموذجا تفسيريا للحالة الليبية حاولت أن أستدرك بكلمة “جل” و “مع بعض الاستثناءات” إلا أنها على ما يبدو لم تكن كافية. لست جهويا، ولا أقسم الناس على أساس مكان مولدهم، وليست الجهوية لي بخلق، وأعتذر عن شيء قد يفهم منه ذلك.
موقفي من كل تلك النزعات عرقيها، وجهويها، وطبقيها، هو قول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم “دعوها فإنها منتنة”، وأما أولئك الذين تجاوزا الحدود، ممن لم تعركهم السنون ولم تصقلهم تجارب الحياة المريرة، فلهم مني خالص الدعاء والتجاوز عما بدر منهم. والله يجزي كلًّا بنيّته.
المصدر : الصفحة الشخصية لعضو المجلس الانتقالي السابق عبد الرزاق العرادي