كتب صديقنا العزيز الدكتور محمود الفطيسي حفظه الله معلقا على ما يجرى في حلب وبنغازي وغزة قائلا :
“حلب – الموصل- بنغازي- غزة كبرى مدن أهل السنة ، زرعوا فيهن بذور ما يُسمى بداعش لكي يدمروهن محاولة منهم للقضاء على أهل السنة الوسطيون. والموضوع لم يكن صدفة وإنما تم اختيار هذه المدن بعناية فهن مدن القرآن والسنة، مدن الحضارة الإسلامية.
سوف تستعيد هذه المدن عافيتهن وتزدهر و تكمل رسالتهن بحول الله وقوته .نسأل الله أن ينتقم من كان سبب في هذا الدمار ومن ساعدهم ولو بكلمة.”
وعلى الرغم من اتفاقي التام مع دكتور محمود إلا أن هذا لا يمنع مناقشة الفكرة المحورية فيما طرحه وهي فكرة ” زراعة البذور” حيث اختلف مع الدكتور في هوية الزارع ومنشأ البذار.
حيث لم يكن واضحا في كلام الدكتور ما الذي يقصده بقوله ” زرعوا ” فإن كان يعني أن التطرف غير موجود في ليبيا وأن الغلو والتطرف والإرهاب مؤامرة خارجية فهذا فيه نظر بدون شك. من جهة أن المتطرفين في ليبيا معروفين منذ عقود وليس غلوهم وتطرفهم وليد اللحظة، فتطرفهم وغلوائهم ليس بالأمر والشأن الجديد البتة، بل عانينا منه ومنهم الأمرين منذ ثماننيات القرن الماضى، فكان في بنغازي غلاة التكفريين بل قل الطيف التكفيري الكامل بكل جزئياته وتفاصيل مقولاته، ممن ينزعون منزع المحكمة الأولى التي كفرت علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، إلى إصدارات مختلفة متأثرين كلهم بجماعة التكفير والهجرة التي أسسها شكري مصطفى، الذي تأثر به الطلبة الليبيين الذين ذهبوا للدراسة في مصر في مطلع سبعينات القرن الماضي بعد وفاة عبد الناصر وانتهاء الأحكام التي صدرت مع مجيئ السادات وخروجهم من السجون، بل بعض منهم مثل الحاج “سالم بوحجر” من بنغازي تلقى دعوة للهجرة لدولتهم في جبل المقطم حينها ومارس سالم دورا هداما للغاية في الجري بمجاميع شباب التفوا حوله طلبا للفهم والفقه فورطهم في مشاكل فكرية ونفسية لا حصر لها مع أنفسهم ومع من حولهم من المجتمع، فكانوا لا يأكلون ذبائح البناغزة ولا يصلون خلف أحد من غير مجموعة سالم بوحجر حتى نشبت عركة بينه وبينهم فهجروه وتخلصوا منه ومن فكره، بل كان هناك جماعة جهادية تدعى الأنصار أو البيعة كانت لها منشورات داعشية منذ ذلك الوقت يقودهم المثقف المنحاز اليوم للعسكر ومعه بعض الشباب الغر من منطقة بوهديمة ممن كانوا يتسكعون معه في بيشاور، وكذلك الجماعة الإسلامية المقاتلة فكرها الذي أسس في أفعانستان والسودان متأثرا بكتابات ونظريات عبد القادر بن عبد العزيز المصري كان ينضح بالتكفير، ولولا المرجعات التي خففت بعض الشيء من غلوائها لكانت تمثل إصدارا تكفيريا ما قبل داعش بامتياز، وحتى مراجعاتها لا تزال تنضح ببقايا غلو تلك المرحلة العالقة في تصورهم لأحكام الإسلام حيث لا يشهدون بالإسلام في طرابلس إلا لمن يرونهم في المساجد أما الطرابلسية الذين يتجولون في الأسواق ويتنزهون في الحدائق ويستجمون على الشواطئ فلا يحكمون لهم بالإسلام لماذا يا ترى؟ لأن الأصل عندهم في المجتمع أنه غير مسلم، ويستثنى منه فقط من يرونهم يصلون في المساجد وفق ظاهر نص الحديث، وكذلك جماعة شهداء الاسلام التي كان منها الحامي وبوشرتيلة ومجموعته كانت جماعة جهادية تكفيرية تكفر كل من ليس عضو فيها، وكان هناك مجموعات أفراد معنا في الجامعة ينزعون منزع غلو عرفوا باسم ” التبين والتوقف” وهو ما نظر له محمد قطب عبر كتاباته المختلفة، واليوم أعلنوا عن أنفسهم تحت اسم ” الصادعون بالحق” بالإضافة إلى مجموعة ” المسألة ” التى كان ينتمى لها الزهاوي في السجن قبل أن يؤسسوا ما يعرف بمجموعة أنصار الشريعة.
بل حتى المؤسسات الدينية الرسمية لديها غلو وتطرف سواء تلك التي تتخذ من طبرق مقر لها وأصدرت مؤخر فتوى بتكفير الإباضية أو تلك التي تتخذ من مقر مجلس الأمن القومي مقر لها، ففتاويهم تنضح بالغلو وبأكثر الآراء تشددا في تاريخ الفقه، بل وعلى شاشة قناتهم يتكلم المتحدث الرسمي باسم مركز بحثوها ليقول وهو يدعي الورع والخشية لله وأنه لا تأخذه في الله لومة لائم بقوله: نحن لا نعاد الأشخاص لذواتهم كلا والله بل لا نعادي إلا أعداء الله !! يعني يتصور بعقله المحدود أن لله معركة في ليبيا، وأن الطرف الذي يقف لجانب المؤسسة مع الله ويدافع عن الله، والطرف المخالف للمؤسسة ضد الله وعدو لله، وهو يظهر على الشاشة بصفة المتحدث باسم مركز البحوث العلمية.
وبعد !! هذه هي البذور وتلك هي الجذور وليس هناك زراعة لا نعرفها بل صنع في درنة وبنغازي وطرابلس، ومن أبناء الليبيين من خلال تبني واختيار حر لهذا الفكر.
لماذا هذا الطرح؟ لأننا عندما نتهم الغرب الحاقد والصهيونية بأنها هي من زرعت نكون قد أخطأنا في التشخيص وفهم ما يجري بين ظهرانينا، وبالتالي سيفاجئنا أبناءنا بالمزيد من الطبعات والإصدارات العجيبة الغريبة للتطرف والغلو بقدر أو بآخر وبشكل أو بآخر.
من أجل ذلك الغلو والتطرف والإرهاب لا يمكن أن نلقي بتبعته على أحد، هو بسبب الخطأ في مناهج المدارس والجامعات التي ارتادها هؤلاء وتحصلوا على شهادات منها، والعتب على من يتصدرون للتوجيه الفكري والفقهي ممن ينزعون في اختياراتهم إلى التشدد، ثم تسويقه للشباب على أساس أنه الحق المطلق والوحيد، بينما تجد في المسألة أحيانا سبعة آراء بل خمسة وثلاثين رأي واتجاه، فيمد يده إلى أكثرها تشددا، ويظن أن الله يحبها دون ما سواه من الآراء الأكثر أريحية ويسر.
والغالب على الخطاب الديني الجانب العاطفي قبل الجانب العلمي التأصيلي، وتصدر من ليس لديهم الملكة الفقهية لا من ناحية النبوغ الفطري ولا من ناحية التدريب والتوجيه الصحيح، بالإضافة إلى تغيير مزاج البعص بسب تقدم العمر أو المرض كما حصل مع سالم بوحجر عليه رحمة الله، وغيره من الأموات والأحياء، لذلك كان من الأصوب أن يحدد عمر الستين كحد أقصى للتحدث في الجوانب الفكرية والفقهية قبل أن ينقلب مزاج الفقيه كما حصل مع عطاء بن السائب فصار كلامه محولا دائما على الشك، هل ما قاله قاله قبل أن يختلط أم بعده.
وكل هذا الغلو والتطرف والإرهاب يحصل أحيانا مع حسن النية وهو ما يضلل صاحبه لأنه يشعر أنه مخلص لله ولا يريد جزاء ولا شكورا فيتهم معارضيه بأنهم لا يرجون لله وقارا وأنهم ضد حكم الله المتمثل والمحصور في فهمه هو ونزوعه هو، ويصعب عليه قبول أي توجيه أو نصح ويستحضر الآيات ويحشر الأحاديث التي يحملها على أن رأيه صواب حتى لو خالفه أكثر من في الأرض كما خالفوا الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل.
..
أما الهداية فهي أكبر نعم الله على العبد نسأل الله لنا ولهم الهداية والقدرة على مراجعة الخطأ قبل فوات الأوان
صلاح الشلوي/ كاتب ليبي
المصدر:موقع ليبيا الخبر