in

بين الواقعية والطموح: قراءة نقدية في فكرة تأسيس الشركة المصرفية القابضة في ليبيا

تابعتُ عن بُعد الجلسة الأولى لمؤتمر الاستثمار المصرفي ودوره في تعزيز التنمية الاقتصادية، الذي نظمه مصرف ليبيا المركزي بحضور المحافظ ورئيس حكومة الوحدة الوطنية.
وقد لاحظت أن الأجندة الرئيسية التي تمحور حولها المؤتمر وفكرته الجوهرية، هي الدعوة لتأسيس شركة مصرفية قابضة تضم المصارف التجارية العامة، يساهم فيها المصرف المركزي، على أن تتولى تأسيس مصرف عام للاستثمار.
يرى أصحاب هذا التوجّه أن المشروع سيحقق هدف استثمار أموال المصارف وتوجيهها لتمويل التنمية الاقتصادية في ليبيا، في ظل ظروف يهيمن فيها القطاع العام على معظم النشاط الاقتصادي، وبيئة تشريعية غير مواتية.
غير أن هذا الطرح يتجاهل أن التعافي من تداعيات الأوضاع الحالية يحتاج إلى وقتٍ طويل حتى بعد استقرار البلاد.

لقد بنى الداعون إلى تأسيس الشركة المصرفية القابضة فكرتهم متأثرين بالظروف الاستثنائية والمرحلة الانتقالية التي تمر بها البلاد، وبالجمود الاقتصادي الذي يعانيه الاقتصاد الليبي، على فرضية أن القطاع المصرفي فشل في تمويل التنمية الاقتصادية رغم ما يمتلكه من أموال ضخمة خلال السنوات الماضية.
غير أنهم لم يعرضوا تطور دور المصارف التجارية والمصارف المتخصصة خلال العقود الخمسة الماضية، من خلال بيانات التسهيلات والقروض والضمانات والمشروعات التي مولتها المصارف، كما لم يراعوا الظروف الاستثنائية التي مرت بها البلاد بعد عام 2011 وما تزال آثارها قائمة حتى اليوم.

وفي تقديري، وبالرغم من أن التمويلات التي قدمتها المصارف التجارية لم تكن كافية قياسًا بخصومها الإيداعية، إلا أن تجاهل الظروف الموضوعية التي تعمل فيها المصارف، بما في ذلك ضعف توثيق الرهون العقارية، يشكل إجحافًا بحقها، وينكر الدور الكبير الذي قامت به هذه المصارف في تمويل التنمية قبل عام 2011، حيث كانت الممول الرئيسي للمشروعات الإنتاجية والخدمية، بما في ذلك المشروعات الحكومية.

وكان الأجدر أن يكون المطلب هو إصلاح القطاع المصرفي وإعادة هيكلته من خلال:

خروج المصرف المركزي من ملكية المصارف التجارية،

تعزيز الرقابة المصرفية،

تعديل قانون المصارف رقم (1) لسنة 2005 لتقوية الحوكمة في الإدارة،

وتوسيع دائرة ملكية القطاع الخاص في القطاع المصرفي،
لا أن يتم استبدال دور المصارف كوسيط لتعبئة المدخرات بمصرف استثمار تملكه شركة مصرفية قابضة يساهم فيها المصرف المركزي.

من ناحية أخرى، جاءت مداخلة السيد ناجي عيسى، محافظ المصرف المركزي، أكثر واقعية وموضوعية، عكست موقفًا عقلانيًا مغايرًا للمنادين بفكرة تأسيس الشركة المصرفية القابضة.
فقد أشار إلى أن المصرف المركزي يواجه تحديات كبيرة، وأن السياسة النقدية وحدها لا تستطيع تحقيق أهداف التنمية والاستقرار، مؤكدًا أن تأسيس مشروعات استراتيجية من هذا النوع لا يمكن أن يتم في ظل الانقسام السياسي ووجود حكومتين، وفي غياب رؤية اقتصادية متكاملة لمستقبل البلاد.

إن الاستناد إلى تجارب دول أخرى في مجال الاستثمار والتمويل دون مراعاة خصوصية تلك الدول وخصوصية الاقتصاد الليبي والقطاع المصرفي الوطني، لا يكفي لتبرير تمرير أفكار استراتيجية بهذا الحجم، خصوصًا في غياب رؤية متكاملة للإصلاح الاقتصادي وإعادة هيكلة الاقتصاد الليبي برمّته.
فمشكلة العجز في تمويل التنمية ستظل قائمة ما دام الاقتصاد الليبي يعتمد على مورد دخل وحيد هو عائدات النفط والغاز. ولا سبيل أمام الاقتصاد الليبي إلا تنويع مصادر الدخل والانفتاح على الاستثمار الأجنبي.

ولم يتعلم المنادون بتأسيس الشركة المصرفية القابضة من تجربة الصندوق الليبي للتنمية والاستثمار الداخلي، الذي ساهم في رأسماله كلٌّ من المصرف المركزي والمصارف التجارية، وهي مساهمة لم تكن ناجحة، وقد تحفظ صندوق النقد الدولي على مشاركة المصرف المركزي فيها في حينه.

وفي تقديري، فإن تأسيس مصرف للاستثمار لا يتطلب إنشاء شركة مصرفية قابضة تملكه، بل ينبغي أن يكون مصرفًا مملوكًا بالكامل للقطاع الخاص.
كما أن تأسيسه عبر شركة قابضة لن يلغي تضارب المصالح ولا تعارض الملكية مع الرقابة، عندما يساهم فيه المصرف المركزي أو المصارف المملوكة له، فضلًا عن المخاطر الأخلاقية التي قد يتعرض لها المصرف المركزي في هذه الحالة.

What do you think?

0 نقاط
Upvote Downvote

44 يوماً بلا كتاب مدرسي.. و60٪ من الكتب عالقة في إيطاليا

حفتر والدبيبة..