in

انفراج بعد الرحيل… حين تصل الموافقة متأخرة

حين قرأتُ منشور السيدة رانية الصيد عن ابنها “آدم”، الذي جاءها اتصال المدرسة بعد وفاته ليبلغها أن “الدور وصل فيه”، اجتاحني شعور مألوف.
ذلك النوع من الحزن العميق الذي يعرفه من عاش انتظارًا طويلًا لأملٍ تأخّر، ليأتي بعد فوات الأوان.
ما كتبته أم آدم أيقظ في ذاكرتي تجربة شخصية مريرة عشتها مع والدي، رحمه الله، حين علّقنا قلبنا على موافقة إقامة للعلاج، فجاءت بعد أن أصبح القبر أقرب من المشفى.

في عام 2009، كنتُ طالبًا في فرنسا حين قررت أن أُحضر والدي من تونس، حيث كان يتلقى علاجًا لورم في الرئتين أرهقه وأنهكه.
لم تكن هناك تغطية صحية له في ليبيا، ولا تأمين يكفل علاج السرطان، فاضطر إخوتي إلى بيع سيارتنا الوحيدة لتمويل علاجه في تونس، حتى أتيحت لي الفرصة أن أستقبله في فرنسا، حيث يُؤمَّن علاج الأورام للمحتاجين على نفقة الدولة الفرنسية بعد الموافقة على الإقامة، كمعاملة إنسانية للمرضى وإن كانوا أجانب!

قدّمت طلب الإقامة، وبدأنا رحلة الأمل من جديد، وانتقلنا بين الأطباء والمراكز، حتى قال الطبيب الفرنسي بهدوء مؤلم:

“المرحلة متقدمة جدًا… ما أُجري في تونس كان صحيحًا. لا مزيد يمكن فعله الآن. الأفضل أن يعود إلى بلاده ويقضي أيامه الأخيرة في راحة بين أهله.”

عدنا إلى الوطن الذي لا يحتضن المرضى، فاحتضنه القبر.
دفنّاه على عجل، في بلاد لا تُجيد إلا العجز أمام مرضى لا يملكون إلا الرجاء، ولا يحتاجون إلا إلى رعاية وسرير نظيف وأكسجين وبعض المسكنات.

الرسالة التي وصلت بعد فوات الأوان كانت من الأجنبي، أما وطني فلم تصل منه رسالة حتى الآن.

بعد انقضاء العزاء وعودتي إلى فرنسا لاستكمال مدة دراستي، فتحت صندوق بريدي فوجدت فيه رسالة الموافقة الرسمية على إقامة والدي للعلاج في فرنسا.
قرأت الرسالة، ثم بكيت بكاءً لم أبكه من قبل.
لم تكن دموع حزن فقط، بل دموع قهر على وطن لا يمنح أبناءه حق الرعاية الصحية، والأجنبي يحاول أن يسعفه بموافقة متأخرة، بعدما أصبح الجسد تحت التراب.

لماذا على المواطن الليبي أن يبيع ما يملك كي يحصل على علاج؟
لماذا يُترك مرضى الأورام والأمراض المزمنة بين الرفض والإهمال، وكأنهم عبء وليسوا بشرًا؟
لماذا لا يوجد تأمين صحي شامل لكل ليبي؟
تأمين صحي يكون حقًا أساسيًا لكل من يحمل هوية هذا الوطن.
نريد سياسة صحية تحترم كرامة الإنسان، وتحميه من التسوّل من أجل جرعة دواء، أو سرير نظيف، أو أنبوبة أكسجين.

آدم ذكرني بأبي:
آدم الطفل، وأبي الشيخ، لم يلتقيا يومًا، لكن كليهما ناله “القبول” بعد الموت.
كليهما انتظر في طابور بلا نهاية، وسُمح له بالمرور بعد أن توقفت أنفاسه.
رحل آدم يحلم بمقعد دراسي، ورحل والدي يحلم بجهاز تنفس ودواء مجاني.

ويبقى السؤال الذي لا يفارقني:
متى نعيش في وطن يكون فيه تأمين صحي لكل مواطن، واهتمام ورعاية ومدارس مجانية لذوي الاحتياجات الخاصة كما في معظم دول العالم؟

ما رأيك ؟

0 نقاط
Upvote Downvote

كُتب بواسطة Journalist

منصة الطاقة: ليبيا تحتاج إلى استثمارات بـ18 مليار دولار واستقرار داخلي لتحقيق هدف إنتاج 2 مليون برميل يوميًا بحلول 2027

المشري: مراجعة تزكيات المترشحين قبل الخميس تمهيدًا لتشكيل الحكومة الجديدة