تشكل الرقابة الإدارية والمالية حجر الزاوية في أي نظام حكم سليم، حيث تعمل كضمانة أساسية لحماية المال العام وضمان التزام الجهات الحكومية بالقوانين واللوائح.
في ليبيا، كان من المفترض أن تقوم هيئة الرقابة الإدارية وديوان المحاسبة بهذا الدور الحيوي وفقاً للقوانين المنظمة لعملها، إلا أن هذه المنظومة أصبحت في الآونة الأخيرة تعاني من انهيار متسارع أفرغها من مضمونها.
وتبرز أهمية الرقابة الفعالة في منع الفساد المالي والإداري، وضمان كفاءة الإنفاق العام، وتعزيز الثقة بين المواطن والدولة. ومع ذلك، فإن تحول تبعية هذه الأجهزة لأفراد ودخولها في متاهات الصراعات السياسية حولها من أدوات لحماية المصلحة العامة إلى أدوات في الصراع على السلطة والموارد.
لقد أصبحت أجهزة الرقابة في ليبيا رهينة للصراعات السياسية بين الأطراف المتعارضة، حيث يتم تعيين قياداتها بناء على المحاصصة الجهوية والولاءات الشخصية وقوة السلاح والمال، مما أفقدها استقلاليتها وجعلها أداة في الصراع السياسي بدلاً من أن تكون رقيباً محايداً.
أدى تغلغل الصراعات السياسية في عمل الأجهزة الرقابية إلى تحويلها من أدوات للمساءلة إلى أدوات للصراع. فبدلاً من التركيز على مهامها الأساسية في الرقابة على الأداء المالي والإداري، أصبحت هذه الأجهزة طرفاً في الصراع السياسي، مما أفقدها مصداقيتها وفعاليتها.
لذلك فان من أهم أسباب انهيار المنظومة الرقابية في ليبيا هو تحول تبعية قياداتها من المؤسسات الرسمية إلى أفراد وزعماء سياسيين وقادة تشكيلات مسلحة. فبدلاً من أن تكون الهيئات الرقابية مستقلة وتتبع مؤسسة السلطة التشريعية كما ينص القانون ، أصبحت خاضعة لإرادة أشخاص وتيارات سياسية وقادة تشكيلات مسلحة، مما أفقدها حاديتها واستقلاليتها.
وفي مقابل ذلك أدى ضعف الرقابة إلى تفشي الفساد في ليبيا، حيث كشفت تقارير ديوان المحاسبة عن مخالفات مالية كبيرة في مختلف الوزارات والمؤسسات . بدون رقابة فعالة، أصبح المال العام نهباً للسرقة والهدر.
كما ان غياب الرقابة الفعالة على أداء الأجهزة الحكومية أدى إلى تراجع الخدمات المقدمة للمواطنين، حيث يتم تحويل الموارد من الخدمات الأساسية إلى قنوات غير مشروعة.
لذا ساهم انهيار المنظومة الرقابية في فقدان المواطنين الثقة بمؤسسات الدولة، حيث لم تعد هناك ضمانات كافية لحماية المال العام وضمان نزاهة التعاملات الحكومية.
ولإصلاح المنظومة الرقابية لابد من :-
• ضمان استقلالية الأجهزة الرقابية عن الصراعات السياسية، بحيث تعود تبعيتها للمؤسسات الدستورية وليس للأفراد، كما ينص القانون . هذا يتطلب إصلاحاً شاملاً لآليات التعيين والعزل لقيادات هذه الأجهزة.
• توفير حماية قانونية ومادية كافية للموظفين الرقابيين لتمكينهم من أداء مهامهم دون خوف من انتقام أو ضغوط .
• إنشاء آليات مؤسسية لمتابعة تنفيذ توصيات التقارير الرقابية، ونيابات خاصة بالنظر في الجرائم والمخالفات.
أخيرا، إن انهيار منظومة الرقابة الإدارية والمالية في ليبيا يمثل أحد الأسباب الجذرية لاستمرار أزمة الدولة الليبية، حيث تحولت هذه الأجهزة من أدوات لحماية المال العام إلى أدوات في الصراع السياسي. إن إصلاح هذه المنظومة يتطلب إرادة سياسية حقيقية تبدأ باستعادة استقلالية الأجهزة الرقابية وحمايتها من التدخلات السياسية، وتعزيز قدراتها الفنية، وضمان متابعة تنفيذ توصياتها.
in مقالات
انهيار منظومة الرقابة الإدارية والمالية في ليبيا: الأسباب والتداعيات
