دار الإفتاء في الأصل مؤسسة رسمية تتبع السلطة التشريعية وفق قانون تأسيسها، وقد ألغى مجلس النواب قانونها، ولكنها استمرت في وجودها دون أن تكون لها تبعية واضحة، وهي تمارس دوراً سياسياً غير مسؤول من خلال رئيسها الدكتور الصادق الغرياني، الذي لا يترك شاردة ولا واردة إلا ويتناولها برأيه الذي يلبسه لباس الفتوى الشرعية، منزلا عليها أحكام الحرام والحلال، والكفر والضلال، والإثم والبر، والأمثلة على ذلك قد جاوزت الحصر، ووصل الأمر إلى أن تحولت الدار إلى حزب سياسي غير مرخص وغير مسؤول عن تصرفاته، يقوده شخص واحد ويتبعه مريدون من عدة فئات، منهم إسلاميون فشلوا في العمل السياسي من بقايا تيار الجماعة المقاتلة والتيار السلفي التقليدي، والإسلاميون المستقلون، بعد أن أسسوا أحزاباً وتلاشت، مثل حزب الأمة الوسط، وحزب الوطن، وحزب الرسالة، وتكتل الأصالة، وحزب يا بلادي بقيادة نوري أبوسهمين وغيرها، وللأسف تحولت دار الافتاء إلى تكتل يضم هؤلاء، ولم يعد لهذه الأحزاب والتكتلات أثر ولا حضور بين عموم الناس كما كان ينبغي لها أن تكون لو كان على رأسها شخصيات حكيمة وواعية، تدرك المقاصد العامة للدين، بل صارت تقدم صورة سلبية لعلاقة الدين بالشأن العام بين الأوساط الواعية والمحافظة، وهذا أصبح واضحا في ليبيا لكل متابع.
لقد وجد كل هؤلاء بُغيتهم في هذه المؤسسة التي توفر الغطاء الشرعي والدعم المادي من خلال المؤسسات الدعوية والإعلامية التي تشرف عليها دار الإفتاء، وتحقق لها بعض الرصيد المجتمعي، ويجلس الشيخ الصادق الغرياني على رأسها منذ التأسيس، حيث وجدوا فيه ضالتهم كرجل يطمح للقيادة بدور سياسي عبر مؤسسة رسمية تتحدث باسم الدين وأداتها الحساسة هي الفتوى الشرعية، كما وجد هو أيضاً ضالته فيهم كمجموعة لها وجود في تيار فبراير العريض يهتفون معه بأعلى أصواتهم ويدافعون عن آرائه السياسية، ويقنعون الناس أنها كلمات رجل دين وشيخ نأخذ منه السياسة كما نأخذ منه في الفقه المالكي، وهم في معظمهم بسطاء يتمثلون بالمقولة التقليدية (علّق على شيخ وتوكل).
أبرز مواقف هذا التيار هي اتباع كل ما يصدر عن الشيخ الغرياني دون أي نقاش لأنه حرام وحلال، وهو الأقدر في تقدير المصالح إذا تطلب الأمر، ولذلك فهم لا يلتفتون إلى أي تناقض في مواقف الشيخ، حيث دعم حكومة الوحدة الوطنية ورفض حكومة السراج مع أن الأسباب واحدة، ورفض التعامل مع بعض الدول وشنّع على من يتعامل معها وقَبِل أو سكت في أحيان أخرى، وهكذا تناقض في عديد المواقف وفقا للهوى الذي يلبسه لباس المصلحة الشرعية والحرص على الدين، وهي في الحقيقة مصلحة تيار دار الإفتاء والمواقف السياسية للمفتي.
هذا التيار الذي يقوده المفتي يوصف في الاصطلاح السياسي المتداول في الإعلام والسوشيل ميديا وعموم الناس بالإخوان المسلمين، والحقيقة -اتفقنا أو اختلفنا مع الإخوان المسلمين- فدار الإفتاء لا تمثلهم سوى بعض الشخصيات الفردية من الإخوان، لذا وجب الانتباه، فهم غير تيار دار الإفتاء أو ما اصطلح على تسميته من خصومه في الحزب الديمقراطي بـ(تيار التأزيم).
الإخوان المسلمين
هم كتيار موجودون ولكنهم كتنظيم غير موجودين،
باستثناء جمعية الإحياء والتجديد، وهي مؤسسة دعوية لا علاقة لها بالعمل السياسي، أو حزب العدالة والبناء وهو بالأساس حزب مستقل عن الجماعة تراجع أداؤه السياسي إلى شبه الجمود خلال السنوات الثلاثة الماضية، أما بقية الإخوان فهم منتشرون في العديد من المؤسسات الدعوية والمدنية، وأعلن أعضاء الجماعة في مصراتة والزاوية استقالاتهم من الجماعة، وانصرف كثيرون لأعمال خيرية متنوعة.
هذه هي حقيقة حال جماعة الإخوان في ليبيا، والزج باسم جماعة الإخوان في كل شيء لا أساس له، وهي فزاعة يستخدمها البعض بسوء نية أو جهل أحيانا، مع أهمية الإشارة إلى أن بعض الإخوان يتحملون جزءاً من المسؤولية عن ذلك، بسبب سلبيتهم وسكوتهم، وبسبب ارتياح بعضهم إلى هذا الدور المبالغ فيه، فهو يمثل جانباً تعويضياً لسلبيتهم يضخم دورهم بشكل وهمي، ويضعهم في بؤرة الأحداث.
الحزب الديمقراطي
وهو الحزب المعروف من حيث توجهاته وقياداته ومواقفه الواضحة في المشهد السياسي، والحزب الديمقراطي يقوده محمد صوان وأبرز قيادات “العدالة البناء” السابقين والذين ساهموا في تأسيس الحزب الديمقراطي الجديد بعد خوض تجربتهم خلال العقد الماضي إضافة إلى قيادات جديدة مؤمنة بنهج هذا تيار الذي استأنف مشروعه التوافقي في الحزب الديمقراطي بعيدا عن تبعات الخلافات داخل “العدالة والبناء”.
ومعلوم للمتابع ما حصل من خلاف شديد بين التيار الذي يقوده صوان وبين من يسمونهم تيار التأزيم، ابتداءً من توقيع قيادات الحزب لاتفاق الصخيرات وانحيازهم للحوار والتوافق الوطني مع خصومهم، مروراً بكل المحطات الأخرى، وانتهاءً بتوافقهم مع مجلس النواب والقوى السياسية في الشرق، وما ترتب عن ذلك من تشكيل حكومة السيد باشاغا، وما يقوم به الحزب الآن عبر دعمه لكتلة التوافق الوطني في المجلس الأعلى للدولة، وكل الخطوات التي نتجت عنها لقاءات بين المجلسين في تونس والقاهرة، ودعم الحزب لكل التوجهات والتكتلات الوطنية لغرض تشكيل تيار وطني عريض يساهم في حل الأزمة.
ولذلك فإن أبرز خصوم الحزب هو تيار دار الإفتاء الذي يحرض على الحزب وقياداته، ويصفهم بالتفريط والتنازل على الثوابت بزعمه، ويتهمهم بالخيانة والعمالة.
وعوداً على بدء فإن من المهم التمييز بين هذه الأطراف، وفهم هذا التوصيف جيداً لمنع الالتباس وتحميل كل تيار مسؤولية مواقفه بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه، وعدم التشويش على بسطاء وعموم الناس، فتيار التأزيم (دار الإفتاء) يتعمد وصف الحزب الديموقراطي بالإخوان المسلمين أحيانا، وهذا غير صحيح طبعا، وحجتهم في ذلك على أن بعض قياداته وعلى رأسهم صوان كانوا من جماعة الإخوان، على الرغم من أن صوان أعلن أكثر من مرة أنه لم يعد تجاوز أساليب العمل التنظيمي التي كانت سائدة قبل فبراير وعلى رأسها الانخراط أو الانتماء لأي جماعة، وهو يعمل وفقا للنظام الحزبي بعيدا عن أي إطار آخر.
وكذلك يتعمد تيار الكرامة وصف مخالفيه من دار الإفتاء وتيار التأزيم بوصف الإخوان المسلمين، وهذا غير صحيح كما أسلفت، وخصوم الحزب الديمقراطي من الكرامة يصفون الحزب بأنهم “إخوان مسلمون” كذلك حسب مصلحتهم.
في الختام، إن الساحة السياسية في ليبيا تتسم بتعدد التيارات واختلاف المواقف والتوجهات، دار الإفتاء بقيادة الدكتور الغرياني قد أصبحت تكتلاً سياسياً غير مرخص، يتبعه مجموعة متنوعة من الفئات الإسلامية، بينما يُصنف هذا التيار من قبل البعض على أنه جزء من جماعة الإخوان المسلمين، رغم أن الحقيقة تشير إلى تمايز واضح بينهم.
جماعة الإخوان المسلمين، من جانبها، تعاني من التشتت وفقدان التنظيم المركزي، حيث انتشر أعضاؤها في مؤسسات دعوية وخيرية مختلفة، وانخرط البعض في أحزاب أخرى أو ابتعد عن النشاط السياسي بشكل كلي، هذه الحالة أوجدت مساحة واسعة لسوء الفهم والتشويش المتعمد، مما جعل الإخوان فزاعة سياسية يستخدمها البعض لتحقيق مصالحهم.
أما الحزب الديمقراطي، الذي تأسس بعد انشقاق عدد من قيادات حزب العدالة والبناء، فقد اتخذ مواقف جريئة ومثيرة للجدل تجاه الانفتاح على القوى السياسية الأخرى والتوافق الوطني، هذا الحزب يتعرض لهجمات من قبل خصومه الذين يسعون لربطه بجماعة الإخوان المسلمين لتشويه سمعته وتقليل مصداقيته.
إن التمييز بين هذه الأطراف وفهم توجهاتها المختلفة هو أمر مهم لمنع الالتباس وتحميل كل تيار مسؤولية مواقفه بشكل دقيق، بعيداً عن التشويش والمناكفات السياسية التي تعيق التقدم والتوافق الوطني المبني على الفهم المتبادل والاحترام، وذلك لتحقيق استقرار سياسي يسهم في بناء مستقبل أفضل لليبيا