قدم مبعوث الأمم المتحدة لليبيا عبدالله باتيلي استقالته أخيراً كمبعوث لتسوية المسألة في هذا البلد الواقع شمال أفريقيا، وفي خطاب استقالته أبدى انتقادات شديدة ضد القادة الليبيين، مشيراً إلى أنهم يعملون لمصالحهم من دون اكتراث لإخراج بلادهم من أوضاعها الراهنة المتردية، وتحدث كذلك عن تدخلات خارجية سلبية من دون استفاضة.
استقالة جاءت لتكمل سلسلة طويلة من انسحاب المبعوثين الأمميين في ليبيا منذ بدء الصراع في هذا البلد، وهم على الترتيب الأردني عبدالله الخطيب ثم البريطاني إيان مارتن فالوزير اللبناني طارق متري، ومن بعده الإسباني برناردينو ليون، وتلاه الألماني مارتن كوبلر، واللبناني غسان سلامة، ثم فشل السكرتير العام في إمرار تعيين القائم بأعمال السفيرة الأميركية ستيفاني ويليامز فعينها مبعوثة شخصية، ثم جاء السنغالي عبدالله باتيلي، مما يعني أن ثمانية مبعوثين تولوا مهامهم خلال 13 عاماً أي متوسط أقل من عامين لكل مبعوث.
فشل متكرر
ليست ليبيا وحدها من فشل فيها المبعوثون، بل سوريا واليمن والسودان أيضاً وطبعاً من قبلهم القضية الفلسطينية، ومع أهمية دراسة كل حالة بشكل منفصل في ضوء خصوصيتها، فإن النموذج الليبي يستحق وقفة خاصة، فعقب فترة ركود دبلوماسي جاء المبعوث طارق متري بكثير من النوايا الحسنة المؤكدة، ولكنه اصطدم بتدخلات القوى الكبرى والخارجية وسجلت تجربته هذه في ليبيا مسالك وعرة سنتين في ليبيا ومن أجلها. وفي كتاب لـ”متري” عرض بترفق واحترافية أسرار تعقيدات الوضع الليبي.
ثم جاء الإسباني برناردينو ليون الذي تستحق تجربته بدورها وقفة خاصة لأنه نجح في تحريك الموقف وإنتاج تسوية هلل لها الغرب ولكنها في الحقيقة ستدرس تاريخياً كأحد أبرز نماذج التسوية السياسية المشوهة التي تحول مشكلة إلى وضعية الأزمة المزمنة التي ما زالت عاجزة عن الخروج منها.
بمعنى آخر لم يفشل ليون فقط، بل دمر ليبيا بالتسوية المشوهة المسماة “اتفاق الصخيرات”، بحسب ما يؤكده مراقبون، فالاتفاق تبنى فرضية خطرة وهي عدم الاعتراف بنتائج الانتخابات البرلمانية التي عقدت قبلها بقرابة العام وأسفرت عن تشكيل مجلس النواب الليبي الذي لجأ آنذاك إلى طبرق.
أرسى “اتفاق ليون” هذا عدة تعقيدات لم تخرج منه ليبيا حتى الآن، وأولها أن المجلس النيابي المنتهية صلاحياته يتواصل تحت اسم آخر هو مجلس الدولة ليصبح هناك جهازان تشريعيان ومن ثم كلاهما مستمر حتى الآن رغم حيثية ذلك، المختلفة من الناحية القانونية والدستورية، والثاني ضرورة تمثيل القوى العسكرية والميليشيات المسلحة ومعظمها من الإسلام السياسي، وتشكل حكومة منها حتى لو كانت قد فشلت في الانتخابات ثم تتمكن هذه بعد مشاركتها في الحكم إلى إكمال الاستيلاء عليه.
إذن ما فعله اتفاق الصخيرات ومهندسه ليون هو تقنين مشاركة الإسلام السياسي حتى لو فشل انتخابياً ليعكس وجهات نظر الإسباني بأن إشراكهم في الحكم سيحولهم للاعتدال وهو ما حدث عكسه بالضبط، بل إن المعضلة أن ما تركه ليون أصبح خريطة الطريق للمبعوثين التاليين، ولم يحاول أحد منهم علاج الخلل ولا الخلاص من هذا الإرث المعقد.
ملفات ليست أفضل حالاً
وإذ لا يتسع الوقت للدخول في تفاصيل ملفات سوريا واليمن وكذلك السودان، فإن الأمور إذا كانت أقل حدة من الأخطاء التي جرت في ليبيا بدرجة نسبية فإنها لم تحقق أي انطلاقة، ففي سوريا انحشرت الجهود الأممية والإقليمية في معضلة قوى المعارضة السياسية المدعومة خارجياً وإقليمياً ولكنها محدودة التأثير في الأوضاع السورية العسكرية على الأرض، وزاد من التعقيد أنه حتى حدوث التدخل الروسي كان اللاعبون الدوليون يعتقدون أنهم قادرون على حسم التفاعلات لصالحهم ثم جاء تدخل موسكو ليقلب المائدة من دون أن يتمكن من حسم المعركة بسبب الوجود الأميركي في المناطق الكردية الشمالية ثم المناورة التركية الناجحة في إدلب.
وبعد أن أصبحت الجهود الأممية تدور في مسارات مغلقة وضيقة، انحرفت إلى نقاش عبثي حول الدستور السوري من دون أن تتنبه إلى أن مشكلة سوريا ليست غياب القدرة المحلية على إنتاج دستور سليم وإنما على إنتاج تسوية حقيقية ومخرج من السيناريوهات التي حسمت عسكرياً جزئياً ثم اختفت هذه الجهود رغم مواصلة عمل مبعوثين لا يدري بهم أحد.
وفي السودان كانت المشكلة التي انتهت بطرد أحد المبعوثين منذ عدة أشهر ناتجة من توجهاته السياسية وخياراته التي أقدم عليها من دون التنبه إلى أن المنظمة الأممية لا تملك قرار الشرعية في السودان وأن الأمر ملتبس بدرجة كبيرة.
ومراجعة أدوار الأمم المتحدة تجاه تسوية القضية الفلسطينية ستأخذنا لأحد الأبعاد الرئيسة في الفشل الأممي، وهو أن قرار إدارة الصراع الإسرائيلي- العربي والإسرائيلي- الفلسطيني صادرته الولايات المتحدة منذ عصر وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر وما تلى حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، ومن ثم إذن كانت واشنطن تمارس حق الاعتراض الفيتو بشكل متكرر ومسيء في جميع محطات هذا الصراع وآخرها الحرب الدائرة في غزة حتى كتابة هذه السطور.
عدم مخاطبة الجذور الحقيقية للأزمات
وفي الحقيقة فإن متابعة كل هذه الأزمات والصراعات تكشف عن أن الجهود الدولية كانت تخفق في مخاطبة الأسباب الجوهرية لهذه الصراعات في معظم الأحوال وليس كلها، وربما كانت ليبيا هي النموذج الصارخ بهذا الصدد، فصحيح أن كثيراً من العوامل كانت واضحة صراحة أو ضمناً في محاولات التسوية التي تمت بخاصة الاستقطاب الدولي والإقليمي، والاستقطاب السياسي الداخلي، بل وأصبح واضحاً أيضاً مسألة الفساد السياسي والمالي للاعبين الداخليين أو معظمهم.
لكن بعداً رئيساً آخر لم يتم التعامل معه بشكل كاف وهو السلاح خارج الدولة، وهو بعد لا يعالج إلا بأحد حلين، الحل العسكري، وواضح أنه تعذر، والثاني التدخل الأممي تحت الفصل السابع لنزع هذه الأسلحة وعقد الانتخابات، وهو ما لم يطرح أبداً في كل الجهود السابقة.
أما في سوريا وهي نموذج آخر فتركزت الجهود في المرحلة الأولى على إيجاد حل لمشكلة الحكم والديمقراطية، بينما كانت الأمور انفلتت في الساحة العسكرية لحرب أهلية ودولية، ثم استكمل هذا بالحديث عن الدستور ليتبخر كل هذا باستتباب استقرار النظام السوري.
بينما في اليمن لم يكن من الممكن التمشي مع واقع الصراع كونه انتقل إلى مرحلة من الصراع الإقليمي وفرض الإرادات ثم الجمود بسبب العجز عن إكمال كل طرف محاولاته لإحكام السيطرة.
خلل مزمن للمنظومة الدولية
يمكن القول، إن ثمة عاملين رئيسين يحكمان المشهد العام للصراعات الدولية والإقليمية، الأول هو الخلل الدولي المزمن في نظام حفظ السلم والأمن الدوليين المرتبط بحق الفيتو وهيمنة القوى الغربية على المنظمة الدولية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي واهتزاز حركة عدم الانحياز، والثاني هو حالة التحول الدولي من الهيمنة المطلقة الأميركية التي سادت ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي إلى حالة أو أوضاع جديدة قيد التشكل. وعموماً كلاهما مرتبط جزئياً مع وجود مساحة تباين.
فمسألة حق الفيتو أو الاعتراض كانت تاريخياً سبب تعثر مجلس الأمن في عصر الحرب الباردة وتراجعت نسبياً خلال عصر الهيمنة الأميركية بعد غزو العراق للكويت وزمن انفراد واشنطن بالقرار الدولي وعادت اليوم أشد لتعكس توجهات القوى الخمس ومصالحها والفيتو الأميركي في المسألة الفلسطينية خير شاهد.
وتمكنت القوى الغربية التي كانت لها قدر من السيطرة على المنظمة الأممية حتى زمن الحرب الباردة من إحكام سيطرتها في المرحلة الانتقالية ولم يؤد تراجعها النسبي الحالي لتراجع ملحوظ في سيطرتها على تعيينات المبعوثين الدوليين، فما زالت مسيطرة، ولكنها لا تملك فرض إرادتها بشكل كاف لينفذ هؤلاء المبعوثون الإرادة الغربية كاملة ويعد نموذج برناردينو ليون في ليبيا هو الأبرز في نجاح التوجهات الغربية وآثارها السلبية الكارثية على المسألة الليبية.
ويكتمل المشهد بالأوضاع الانتقالية الدولية الراهنة فالهيمنة الأميركية لم تعد مطلقة، ولكن الصاعدين ما زالوا مهمشين، وفي ظل هذا تصاعدت الأدوار الإقليمية والكل يحاول حشد وجمع النقاط ليكون شريكاً في لعبة المستقبل، ولهذا سيواصل هؤلاء المبعوثون الفشل، لأنه في زمن السيولة هذه تصعب الحلول كما يتعذر فرض التسويات الغربية في ضوء مقاومة الأطراف الأخرى وعدم قدرتها بدورها أيضاً على الحسم، وتتواصل معاناة الشعوب ليست فقط أطراف الصراعات بل ربما أيضاً العالم لأسباب عدة يكفي أن يكون من بينها النزوح والهجرة
المصدر: صحيفة “اندبندنت ” عربية