يحظى فتحي باشاغا اليوم بقبول لايستهان به مما يجعله رقما صعبا، فهو يحظى بمباركة أطياف عدة سواءا في شرق البلاد أو غربها أو جنوبها، مع تحفظ البعض، وكذلك فإن حكومته أنتجتها توافقات سياسية مهمة بين أطراف متنافسة، وبالتأكيد فإن هذه التوافقات ماكانت لتتم إلا بناءا على تسويات بين الدول المؤثرة في الشأن الليبي إقليميا وعربياً ودولياً، لكن ونظراً لإرث المركزية الصارمة الذي يتميز به الحكم في ليبيا منذ حقب طويلة، فإن الذي يريد أن يحكم ليبيا لابد أن يثبت دعائم حكومته في العاصمة العريقة طرابلس، والتي تضم المؤسسات النافذة والتي لا تدار دواليب الحكم بدونها، حتى تكاد هذه المؤسسات بسطوتها وادوارها اليوم أن تغدو حكومات داخل الحكومة كمصرف ليبيا المركزي خاصة، وأيضاً المؤسسة الوطنية للنفط.
ويذكرني فتحي باشاغا (رئيس ما يسمى بحكومة الاستقرار) وهو يحاول دخول العاصمة طرابلس لتجسيد وتفعيل حكومته بها، بصانع السلام والاستقرار والنهضة في رواندا “بول كاغامي” القائد المليشياوي سابقاً، حينما هب مندفعا نحو العاصمة الرواندية “كيغالي” ليؤسس حكومته فيها وهو ما حدث، والتي أوقف من خلالها سفك الدماء بين قبيلته التوتسي والهوتو، عن طريق عقد مصالحة شاملة بين الروانديين، ووضع دستوراً ألغيت فيه التفرقة العرقية التي كانت تنص عليها الوثائق المدنية الرسمية، وقد شكل حكومة حظيت فيها النساء بنسبة 30في المائة، تقديرا لهن على دورهن البارز في إنجاز المصالحة.
فتحي باشاغا، الذي يحظى بالنفوذ والتأثير خاصة على المليشيات، والتي تمثل القوى المحلية المتحكمة فعلياً في ليبيا شئنا أم أبينا، عن طريق تقاسم النفوذ والامتيازات فيما بينها.. أيضاً نرى في حالة رواندا أن الاستقطاب الدولي كان قوياً، ممثلا في هيمنة الاستعمار البلجيكي، والذي كان يقرب إليه قبائل الهوتو (المزارعين) وهم الأكثرية ويؤلبهم على قبائل التوتسي (الرعاة) وهم الأقلية، حتى وصل الطرفين في نزاعهم إلى حصد مليون قتيل في 100 يوم.
ورغم أن “بول كاغامي” ينتمي إلى قبائل التوتسي المضطهدين والأكثر تضررا في الحرب الأهلية، إلا أنه آثر نهج التصالح وطي صفحة الأحقاد والضغائن والثارات، وحقق مصالحة حقيقية وشاملة، لتبدأ رواندا مسيرة نهضة مشهودة ذاع صيتها في العالم.
نعم نحن في ليبيا نحتاج إلى مصالحة حقيقية وشاملة، وهذه المصالحة المنشودة تحتاج إلى قيادة قوية وراشدة، تسمو فوق المناكفات الجهوية والقبلية والإثنية، وتتجاوز المحاصصات المقيتة، وتؤسس لمواطنة عميقة تنصهر الولاءات الضيقة فيها في بوتقة الوطن الواحد.. نعم تجربة رواندا ملهمة أكثر لليبيا والليبيين، ولكن لما وفي إطار تطلعنا وإستشرافنا لحاضرنا ومستقبلنا لا نكتفي بما فعله بول كاغامي ورفاقه فقط، بل ونتجاوزهم حتى، لأن مايجمع الليبين أكثر مما يفرقهم، وأحداث تاريخية كثيرة تشهد بذلك، ولأن ليبيا أيضاً تمتلك كما وكيفا من المؤهلات والمكونات والموارد البشرية والمادية التي تمكن من إحداث نهضة غير مسبوقة كما يؤكد على ذلك كبار المحللين الإقتصاديين العالميين.
أم أن القيادة التي ستحدث هذه النقلة مازالت في طيات الغيب، إلى أن يحدث الله أمرا كان مفعولا.
المصدر: قناة ليبيا المستقبل.