منذ منح الثقة للحكومة الليبية في الأول من مارس من العام 2022 من قبل مجلس النواب الليبي، تشهد الساحة الليبية صراعًا سياسيًا على من يستلم زمام الحكم بين الحكومة الليبية برئاسة السيد فتحي باشاغا التي جاءت باتفاق محلي بين مجلس النواب و المجلس الأعلى للدولة والأطراف السياسية المؤثرة في المشهد السياسي الليبي و حكومة الوحدة الوطنية التي جاءت نتيجة مخرجات الحوار الليبي في العام الماضي الذي رعته بعثة الأمم المتحدة باتفاق دولي.
مجلس النواب الذي أعطى الثقة لحكومة الوحدة الوطنية كان يعتقد أنها ستوفي بوعودها التي قطعتها أمام الليبيين؛ التي كانت أهمها الانتخابات و تحسين الأوضاع المعيشية التي عانى ويلاتها المواطن الليبي منذ سنوات، قرر سحبها منها في جلسةً رسمية للبرلمان بعد أن أدرك أنها حادت عن مسارها ولم تستطع تحقيق ما جاءت وهذا ما فتح عدة مسارات في السيناريو السياسي الليبي.
كانت أنظار الليبيين صوب الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي كان مزمع تحقيقها في ديسمبر من العام الماضي، و هو ما نصت عليه خارطة الطريق وهذا ما فشلت فيه حكومة عبدالحميد الدبيبة في تحقيقه ما استوجب رسم سيناريو جديد يحقق هذا وهو ما عملت عليه الأطراف السياسية والقوة الفاعلة في المشهد الليبي الذين اتفقوا على خلق وفاق جامع بينهم و تسمية حكومة جديدة قوية قادرة على صناعة التغيير بأدواتها السياسية، حاولت قبلها حكومة الوحدة الوطنية إفشال هذا السيناريو حتى تستمر في مهامها ولكن ما لبثت حتى فشلت مساعيها؛ بعد سنوات من التجارب الفاشلة يرى البعض أن الحكومات الانتقالية في ليبيا أصبحت سنة غير محبوبة ، في حين يرى البعض الآخر أن المشهد الحالي يحتاج لحكومة قوية تملك أدوات حقيقية تصنع بها التغيير وإبعاد شبح الانقسام وتوحيد المؤسسات وإخراج المرتزقة من كل ربوع الوطن وتستطيع تهيئة الوضع وتوفير المناخ لضمان تحقيق المسار الديمقراطي المتمثل في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
الحكومة الليبية
يصف كثير من متابعي المشهد الليبي بأن الحكومة الليبية برئاسة السيد فتحي باشاغا والتي جاءت باتفاق محلي لم يستطع أحد تحقيقه منذ أعوام بأنها حكومة استقرار وأنها البداية للانطلاق نحو بناء الدولة، وجاءت لتحقيق ما فشلت فيه سابقاتها، وهو تحقيق الاستحقاق الانتخابي والإصلاحات الاقتصادية.
فتحي باشاغا “الرجل القوي في الغرب الليبي” استطاع إقناع الأغلبية بمشروعه الوطني الذي تبناه منذ أن خرج من حكومة الوفاق الوطني كوزير للداخلية، واستطاع أن يبقى رقمًا في المعادلة السياسية حتى تم تسميته رئيساً للوزراء.
و بعد نيل حكومته الثقة من البرلمان في الأول من مارس وحلف اليمين القانونية في الثالت من ذات الشهر، استلم نواب رئيس الحكومة الليبية مقارهم في الجنوب والشرق الليبي وبدأوا في ممارسة مهامهم رسميًا؛ لتضيق دائرة الصلاحيات أكثر على السيد الدبيبة الذي بات لا يحكم إلا في طرابلس وبعض ضواحيها، ومع دوران ساعة الوقت أصبح الدبيبة غير قادر على الإيفاء بالوعود التي كان يروج له في حملته الانتخابية للانتخابات الرئاسية التي كان سببا رئيسيا في فشلها وهذا ما سبب امتعاضا شعبيا في الشارع الليبي على غرار الاستياء الذي أصبحنا نراه بسبب التحركات العسكرية في شوارع العاصمة التي تمارسها المجموعات التابعة لحكومة السيد الدبيبة والتي يروج من خلالها رساله مفادها أنه هو صاحب القوة في العاصمة ولسان حاله “سأستمر في الحكم ولن أعترف بقرارات البرلمان ولا حكومته التي اختارها”.
مع ارتفاع صوت معارضة حكومة الوحدة الوطنية ومناصريها، يقوم رئيس الحكومة الليبية السيد فتحي باشاغا و وزاءه بعقد عدة جولات دولية وينظم وزراءه سلسلة من الاجتماعات على المستوى الدولي والمحلي وصفها بالمثمرة والايجابية حسب تصريحاته الصحفية وتغريداته على الحسابات الخاصة به في مواقع التواصل الاجتماعي التي دائما ما يعبر فيها عن رغبته في الاستقرار والسلام والبناء و عدم الانجرار وراء الفتنة التي تسعى إليها بعض الأطراف لإشعالها.
بعد جملة من المستجدات السياسية، مراقبون للوضع الليبي يرون أن تعنت وإصرار رئيس حكومة الوحدة الوطنية سيزيد المشهد تعقيدا وخاصة مع الخطاب التصعيدي الذي تستخدمه المنصات الإعلامية التابعة له، وهذا ما سيؤثر سلبيا في ضرب الروابط الاجتماعية وزيادة تأزيم المشهد وتعقيده؛ في حين أن المشهد الاقتصادي في حالة تدهور مستمر ويحتاج لمعالجات وحلول سريعة خاصة مع ترديء الأوضاع المعيشية التي أصبحت واضحة للعيان، وهذا ما سيضع حكومة السيد باشاغا في اختبار حقيقي لمعالجة هذه الملفات في ظل كل هذه المستجدات، في حين عديد المؤشرات تؤكد أن دخول الحكومة الليبية قاب قوسين من ممارسة مهامها من العاصمة طرابلس بعد الاجتماعات المحلية والدولية عديدة عقدها السيد باشاغا آخرها كان من الجانب التركي.
المجتمع الدولي لا يزال في موقف الجمود ولم يعبر أحد منهم عن موقفه اتجاه المستجدات السياسية المتسارعة في ليبيا باستثناء الموقف التابت لهم و هو ضرورة إجراء الانتخابات في أقرب وقت وتهيئة الظروف لها، في حين أن الاجتماعات المكوكية لمستشارة الأمين العام للأمم المتحدة السيدة “ستيفاني ويليامز” مستمرة والتي كان نتاجها إطلاق مبادرة جديدة بين مجلسي النواب والدولة وغير مهتمة بمخرجات التوافق بين هذه الأجسام الذي كان نتاجها حكومة توافقية باتفاق ليبي ليبي؛ أما باقي الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية لا زالوا مستمرين في التشاورات السياسية للوصول لصيغة توافقية تكون ضامنة لمصالحهم في ليبيا.
الموقف على الأرض في تطور مستمر و شعبيا أصبح الناس ينظرون تغير المشهد بدخول حكومة السيد باشاغا لطرابلس العاصمة عندما أدركوا مدى هشاشة حكومة السيد الدبيبة بعد جملة من الوعود الزائفة وفي ظل التصعيد العسكري والتوترات التي يعمل عليها لضمان استمراره.
إن ما يحدث اليوم في المشهد الليبي ماهو إلا أزمة نتيجةً لعدة عوامل فشلت في معالجتها حكومة الوحدة الوطنية التي من المفترض وضع الحلول لها حسب ما نص عليه اتفاق برلين الأول والثاني حتى أصبح تأثيرها على العاصمة وبعض المدن المجاورة، نستطيع القول أن البوصلة السياسية التي تتمثل في مسار الأمم المتحدة والقوة الفاعلية على الأرض “السياسية والعسكرية ” والتحالفات الأقليمية أيضا أصبحت تعمل في اتجاه معاكس للسيد الدبيبة وسيجد نفسه أمام معادلة دولية معقدة سيكون مجبرا فيها على التماهي معها أو التعنت والبقاء في الحكم بإشعال فتيل الحرب من جديد.