إذاً، سيف الإسلام القذافي، صاحب مشروع ليبيا الغد، قد ترشح للانتخابات الرئاسية الليبية، ساعياً إلى الجلوس على كرسي أبيه معمر القذافي، الذي لم يرحل من السلطة إلا بصواريخ الناتو ونضال الشعب الليبي المسلح، تاركاً خلفة كما يترك كل ديكتاتور ترِكةً من التفكك والتشرذم، أخذت معها ليبيا إلى ساحة من الحرب الأهلية امتدت لأكثر من عشر سنوات، ولا أفق لنهايتها، في ظلّ عبث أطراف دولية وأجهزة استخبارات عالمية ودخول مرتزقة إلى ليبيا، في مشهد يعيد إلى الأذهان الحالة السورية وحالات مثل الصومال وغيرها من دول الحروب الأهلية المستمرة منذ سنوات.
بعد أن بات سيف القذافي مطلوباً للمحكمة الجنائية الدولية في 2011 بسبب مسؤوليته عن قتل المئات من الليبيين، في تظاهرات فبراير 2021، تبع ذلك اعتقاله على يد المجلس الانتقالي الليبي في هذه الأوقات، في أغسطس 2021، لكن ونظراً لتعقد خريطة القبائل الليبية، وتمتع القذافي بعلاقات قوية مع قبائل ليبية، عملت كتيبة في هذه الفترة تطلق على نفسها اسم “كتيبة أبو بكر الصديق” على إطلاق سراحه من سجن في مدينة الزنتان.
لم يتوقف التعاطي القانوني مع سيف القذافي عند نقطة اعتقاله، أو الإفراج عنه، بل إن محكمة استئناف العاصمة الليبية طرابلس قضت بإعدام الرجل في 2015 رمياً بالرصاص، بتهم المسؤولية عن الحرب الأهلية والإبادة الجماعية واستغلال النفوذ وإصدار أوامر بقتل المتظاهرين الليبيين، لكن سيف القذافي حظي بالإفراج عنه في 2016 في شكل عفو عام، لا يُعرف من المسؤول عنه حتى الآن، ليختفي سيف القذافي تماماً عن الأنظار حتى ظهوره في حوار مكتوب لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، قال محرر اللقاء روبرت وورث إنه استغرق عامين ونصف العام من أجل الترتيب لهذا اللقاء.
حاول سيف القذافي طيلة السنوات التي سبقت تقدمه بأوراق ترشحه للانتخابات الرئاسية في ليبيا، إنزال صفة “الغموض” على مصيره، فلا يتعامل مع الإعلام على الإطلاق، وحتى المقربون منه ممنوع عليهم الحديث عن حياة الرجل أو عن مصيره، ولا كيف ولا أين يعيش، فالرجل سعى من خلال حالة الغموض تهيئة الشارع الليبي الذي يعاني من ويلات الحرب الأهلية، لدور مستقبلي لابن القذافي، الذي سيأتي لإنقاذ البلاد من كل الحروب الأهلية التي عاشتها، وكافة الرموز السياسية الحالية في الحياة السياسية الليبية باتوا بلا جدوى وعليهم الرحيل، وعلى الليبيين أن يعودوا إلى الماضي مرة أخرى حيث عهد الديكتاتور القذافي.
من أين يستمد سيف القذافي قوته؟
لا شك أن سيف القذافي يتمتع بأذرع مالية وسياسية، هي التي ساعدته على الخروج للعب دور سياسي واضح في المشهد الليبي، فالرجل يُنفق من أموال والده وأموال عائلته الحاكمة، التي جمعوها طيلة السنوات التي حكموا فيها البلاد، وهي أموال طائلة ستساعده بلا شك في صناعة لوبيات إقليمية ودولية تساعده وتسوقه كمنقذ جديد للشعب الليبي، في مواجهة خليفة حفتر، الجنرال الفاشل العاجز عن حسم أي معركة سياسية أو عسكرية يخوضها، وكذلك في مواجهة رموز المجلس الأعلى للدولة والحكومة الليبية ومجلس النواب، وكلها رموز عجزت في الواقع في السنوات الماضية عن انتشال البلاد.
سيف سوف يستغل هذه الأموال كذلك في إنشاء لوبيات في الوطن العربي من صحفيين وساسة، يروجون لمشروعه السياسي الذي يتخذ من تونس أرضاً للانطلاق والتسويق نحو الجمهور العربي.
في المقابل، وفي ظل حالة التشرذم داخل ليبيا، يعول القذافي على القبائل الليبية التي تتمتع بنفوذ قوي سياسي ومالي داخل ليبيا، وناقمة على مآلات الوضع السياسي الحالي، إذ إن هذه القبائل كانت تدعم والده القذافي، وتمتعت بنفوذ قوي مالي وسياسي في عهد الراحل القذافي، هذه القبائل في الغرب وفي الوسط وفي الجنوب لها نفوذ كبير، وستدعم سيف القذافي في معاركه السياسية ضد خصومه، إذا ما استطاع سيف القذافي بالفعل المنافسة بشكل قانوني ورسمي على منصب رئيس الجمهورية في ليبيا.
في الداخل كذلك يعول سيف القذافي على حالة الفوضى التي خلقها خليفة حفتر، من خلال الاستعانة بالمرتزقة الأجانب، وتسبب -أي حفتر- وغيره من رموز الصراع الليبي في استباحة أراضي ليبيا على يد أجهزة استخبارات دولية، وكذلك تدخلات لدول إقليمية، وتسبب ذلك في انهيار العملة الليبية ودخول البلاد في حرب مرتزقة وميليشيات وانتشار السلاح، كل هذه الملامح للدولة الليبية بعد رحيل القذافي الأب يستغلها القذافي الابن، ويسوق للمواطن الليبي أن الحال في عهد الراحل كانت أفضل عشرات المرات من الوضع الحالي، وأن عليهم الرحيل إلى الماضي!
الدعم الإقليمي والدولي للقذافي الابن
هناك في القاهرة، وعلى غير ما يلاحظ المتابع، وعلى غير ما يُعلن أيضاً من الجانب المصري من انحيازه الواضح لخليفة حفتر، يعمل فريق كامل وكبير لسيف القذافي منذ سنوات، من خلال منصة إعلامية، يديرها أحد ضباط جهاز المخابرات الليبي في عهد معمر القذافي، وأحد رجالات سيف القذافي، يعمل ومعه فريق كبير تحت أعين السلطات المصرية، من أجل تقديم سيف القذافي مرة أخرى إلى الرأي العام الليبي والعربي، باعتباره البديل الأوفر حظاً للشارع الليبي، ورغم أن هذا الفريق يعمل بموافقة وإشراف مباشر من الأجهزة الأمنية المصرية، فإن الموقف المعلن لمصر هو في اتجاه دعم حفتر، فالقاهرة تدعم ظاهراً طرفاً، وحال إخفاقه تكون قد ساعدت البديل بشكل غير معلن، من أجل أن تكون لها اليد الطولى عليه بعد ذلك.
هذا ما يحدث من الجانب الروسي كذلك، ففي الوقت الذي يعيث فيه الفاغنر الروس، الذين يقترب عددهم من 2000 عنصر مسلح، داعمين لخليفة حفتر في حروبه في ليبيا، ورغم الدعم السياسي الواضح من جانب روسيا لخليفة حفتر، واستقبالهم له أكثر من مرة، فإن أطماع روسيا في ليبيا تتعدى حفتر بكثير، فموسكو تسعى كما حدث في الأزمة السورية إلى ضمان الحصول على عقود أمنية كبيرة ومستديمة لشركاتها العسكرية الخاصة في ليبيا، كما فعلت في سوريا مع بشار الأسد، هذه الشركات العسكرية الخاصة سوف يكون لها دوران واضحان في ليبيا، الأول تأمين المناطق والمرافق الحيوية، وكذلك القيام بعمليات استخباراتية في ليبيا لصالح الحكومة الروسية.
الأمر الأكثر أهمية لروسيا من وجودها في ليبيا، وهو ما يؤرق الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، هو الوجود العسكري الروسي في ليبيا، ففي حال إقدام روسيا على تعظيم دورها العسكري في ليبيا سيجعل الأسلحة والصواريخ الروسية على بعد دقائق من الأراضي والمصالح والأهداف الأوروبية، وهو أمر يسبب إزعاجاً حقيقياً للناتو وواشنطن، وكذلك للاتحاد الأوروبي، كذلك فملف الغاز الليبي أحد الأهداف القوية والواضحة التي تطمح روسيا لحسم جزء كبير منه لصالحها.
بالنسبة لأهداف روسيا في ليبيا، فبلا شك، سيف القذافي على الاستعداد المطلق لتهيئة الأجواء لتحالف ليبي روسي قوي، حال فوزه في الانتخابات الرئاسية فالرجل الذي يقدم نفسه المنقذ للشارع الليبي سيرحب بأي تحالفات لأطراف لها يد قوية داخل ليبيا، تساعده في الفوز، وليس بعيداً عن روسيا هذا الدور.
روسيا ليست وحدها، بل الصين كذلك
رغم أن الصين والقذافي الأب لم يكونا على وفاق في المشهد السياسي الدولي، وليس أدل على ذلك من فشل القذافي في إقناع بكين بدعمها في الملف النووي في عام 1970، وهجوم القذافي على الصين في مؤتمر القمة الصينية الإفريقية في عام 2006، لكن الجانب الاقتصادي كان مزدهراً بين الصين وليبيا، حتى إن قيمة العقود الصينية في ليبيا في عهد القذافي فاقت الـ19 مليار دولار، وكانت مسؤولة عن كافة البنى التحتية في ليبيا، وكذلك قبيل الثورة مباشرة كان للصين 80 شركة تعمل في قطاع البناء والسكك الحديدية والطاقة الكهرومائية.
لكن ورغم أن الدور الصيني في الأزمة الليبية بعد رحيل القذافي كان باهتاً فإن بكين شاركت في مؤتمر برلين بخصوص ليبيا في عام 2020، بعد المحاولة الأخيرة لخليفة حفتر لاقتحام العاصمة طرابلس، وهو حضور كان واضحاً وبدعم كبير من الجزائر التي دعت لحضور بكين، وأن تلعب بكين دوراً كبيراً في الملف الليبي.
هذا الحضور السياسي الصيني في الملف الليبي بدءاً من 2020 يرسخ لحاجة الصين للاطمئنان لحصتها الكبيرة من إعادة إعمار ليبيا، حال استقرار السياسة، أو وصول أحد الأشخاص إلى سدة الحكم، لكن في الوقت نفسه لم يُشهد للصين أي تعاون مع خليفة حفتر، بل على العكس استقبلت الصين بعد رحيل القذافي 3 من رموز نظامه لبحث مستقبل البلاد.لا يوجد إعلان رسمي أو موقف واضح، للصين من ترشح سيف القذافي، لكن مع تطابق المواقف الروسية الصينية في الكثير من الملفات في الشرق الأوسط، وعلى رأسها الملف الإيراني، وكتطابق أيضاً في الموقف مع روسيا، نكاية ضد الدور الأمريكي وحلف الناتو في المنطقة، فلا يستبعد أن يذهب القذافي الابن إلى بكين، إن لم يكن قد تواصل بالفعل قبيل إعلانه الترشح، من أجل طمأنتها على نسبتها من حصة إعادة الإعمار مقابل دعمه في الانتخابات الرئاسية.
تبقى الإشارة هنا إلى الدور الإيراني، وما إذا كانت طهران تطمح إلى دعم سيف القذافي في الانتخابات الرئاسية المقبلة. من المعروف أن طهران كانت من أوائل الدول التي عارضت تدخل حلف الناتو في ليبيا من أجل مواجهة القذافي في عام 2011، وكانت ترى إيران أن تمرير قرار للناتو يخص التدخل في ليبيا أو فرض حظر طيران على ليبيا، سوف يزيد نفوذ الناتو وأمريكا في الشرق الأوسط، وهو ما سيؤثر بطبيعة الحال على النفوذ الإيراني، في الفترة التي لم يكن قد انفجر فيها الملف السوري في وجه الجميع.
ورغم إعلان إيران مراراً أنها لا تتدخل في الشأن الليبي، فإنه في منتصف 2019 تم الإعلان عن رصد سفينة إيرانية محملة بالأسلحة قبالة ميناء مصراتة، قيل ساعتها إنها تابعة للحرس الثوري، ورغم ما أثير حولها في هذه الفترة فإنه لا يعد ذلك دليلاً واضحاً على أن طهران بات لها دور كبير في الملف الليبي.
وقد كنت شاهداً على حوار دار بين أحد المقربين من حكومة الوفاق الليبية السابقة وأحد المحسوبين على حكومة حسن روحاني، وقد طلب المسؤول السابق الليبي، من المسؤول الإيراني، مناقشة قدرة طهران على التدخل لإقناع حفتر على التوقف عن اقتحام طرابلس، وأن يكون لها دور واضح وجوهري في الملف الليبي، وقد كان هذا النقاش أثناء محاولة حفتر الأخيرة لاقتحام طرابلس، وقد ردّ المسؤول الإيراني بأن طهران لديها أزمات متلاحقة ومعقدة، في ظل سياسات دونالد ترامب في هذه الفترة، وأنها لن تستطيع أن تلعب هذا الدور في الفترة الحالية.
إلا أنه يجب التأكيد على أن كلاً من روسيا والصين وإيران تتلاقى مصالحها في كثير من الملفات، خاصة تلك التي تُجابه النفوذ الأمريكي والأوروبي في الشرق الأوسط، وبالتالي وبدون تبنؤ يمكن القول إنهم لن يتأخروا في دعم سيف القذافي، حال ضمانه خوض الانتخابات الرئاسية في ليبيا، لكن هل يستطيع سيف بالفعل أن يخوض الانتخابات الرئاسية الليبية؟
في تقديري لن يستطيع سيف القذافي خوض الانتخابات هذه المرة بكل تأكيد، بسبب الأزمات القانونية التي يواجهها، ومن الصعوبة بمكان أن يستطيع إيجاد حلول عاجلة وسريعة لها، وإعلانه الترشح هو أولى خطواته في مشروعه السياسي وخروجه للعلن، بعد انتزاع الغموض عن مصيره، وبدء ترتيب حياته السياسية داخل ليبيا، بما يؤهله في الجولة الجديدة من الانتخابات المقبلة، بعد أن يحظى بشعبية ليست بالقليلة من خلال تقديم نفسه مرة أخرى كرجل سياسي مظلوم، وقع عليه ظلم كبير، باعتباره أحد أبناء الشعب الليبي الذين يعانون من ويلات الحرب الأهلية والانقسام، وساعتها سيكون بمقدور الأطراف الإقليمية والدولية الرهان عليه ودعمه للجلوس على كرسي القذافي الأب مرة أخرى.
للكاتب والصحفي المختص بشؤون الشرق الوسط محمود شعبان
المصدر: موقع عربي بوست