في كل دورة نفطية يتجدد القلق في ليبيا حول مسار أسعار النفط، سواء على مستوى النخب أو لدى الرأي العام. غير أن من الضروري منذ البداية وضع هذا القلق في إطاره التحليلي الصحيح. فموازنات العرض والطلب على المدى الطويل لا تشير إلى انهيارات سعرية حادة أو دائمة، إذ إن معظم التوقعات الرصينة لا تضع السعر الحقيقي للنفط دون مستوى سبعين دولارًا للبرميل حتى عام 2040. وهذا التقدير يأخذ في الاعتبار مجمل التحولات الاقتصادية والتكنولوجية، بما في ذلك الكهربة، وانتشار السيارات الكهربائية، والوقود الحيوي، وتوسع الطاقات المتجددة. وضمن هذا الإطار، يظل هذا المستوى السعري مريحًا للدول المنتجة وقادرًا على توفير قاعدة معقولة لبرامج التحول الاقتصادي إذا ما أُحسن توظيفه.
كما يجب إدراك أن الدورات النفطية ليست أحداثًا عشوائية بالكامل، بل هي في جزء كبير منها دورات تُدار وتُضبط عبر آليات السوق وقرارات المنتجين الكبار، وتهدف في جوهرها إلى إخراج المنتجين الهامشيين من السوق. فاستمرار هؤلاء المنتجين، الذين ترتفع تكاليفهم الحدية، يؤدي على المدى الطويل إلى تشويه هيكل السوق وإبقاء الأسعار عند مستويات غير مستدامة. وبعبارة أوضح، فإن الوصول إلى نطاق سعري مستقر يتراوح بين سبعين وثمانين دولارًا للبرميل لعدة سنوات يتطلب عادةً فترة هبوط يُدفع فيها السعر إلى ما دون التكلفة الحدية للمنتجين الذين تبلغ تكلفة إنتاجهم نحو ستين دولارًا للبرميل، وذلك لمدة قد تمتد من سنتين إلى ثلاث. وبدون هذه المرحلة التصحيحية، فإن هؤلاء المنتجين سيواصلون الضغط على السوق، ما يقود السعر إلى مستوى التكلفة الحدية لفترات طويلة قد تصل إلى عقد كامل وفق منطق المنافسة الكاملة.
من هذا المنطلق، يمكن تفهّم الطرح القائل بضرورة استغلال الدورات الهبوطية للضغط باتجاه التقشف وتقليص الهدر، بل وحتى استخدام الخطاب التخويفي المتعلق بعدم القدرة على دفع المرتبات أو تمويل الواردات. غير أن الملاحظة الجديرة بالاهتمام هي أن الدول النفطية الأخرى لا تدخل في حالة هلع مشابهة لتلك التي نشهدها في ليبيا. فالأمر في تلك الدول يُدار بدرجة أعلى من التنظيم، ويقابله وعي عام بطبيعة الدورات النفطية، إضافة إلى إدخال تعديلات مؤقتة على السياسات الاقتصادية لتخفيف أثر المرحلة الهبوطية دون المساس بأسس الاستقرار الاجتماعي.
ويُرجّح أن يكون الهلع المحلي ناتجًا عن عاملين رئيسيين. أولهما ضعف الثقة في الإدارة العامة، حيث تعتقد النخب والجمهور على حد سواء أن الهدر الناتج عن الفساد لن يتوقف، وأن الاحتياطات المالية قد تُستنزف دون تخطيط أو مساءلة. أما العامل الثاني فيتعلق بنقص الوعي الاقتصادي، والتأثر بحملات ذات طابع سياسي، وهو ما ينعكس سلبًا على السلوك المالي والنقدي، فيؤدي إلى تسارع الاستهلاك وارتفاع معدلات التضخم بدلًا من التكيّف العقلاني مع الدورة الاقتصادية.
وبالرجوع إلى توقعات السوق المستقبلية، فإن المنحنى الأمامي لعقود خام برنت المتداولة في نيويورك يشير إلى تعافٍ تدريجي في الأسعار بعد عام 2026. صحيح أن هذا التوقع يتضمن عنصرًا مضاربيًا ويفترض احتمال انتهاء المنافسة الحادة بين كبار المنتجين في وقت مبكر نسبيًا، إلا أن التجربة التاريخية تشير إلى أن مثل هذه الحروب السعرية نادرًا ما تنتهي قبل مرور عامين على الأقل، يليها عام إضافي لمعالجة التخمة وسحب الفوائض من السوق. وفي المقابل، تبرز آراء أخرى لا تستبعد سيناريو ارتفاع حاد في الأسعار نتيجة قفزة غير متوقعة، أو متوقعة جزئيًا، في الطلب العالمي، خاصة في حال فشل عدد من الدول في تحقيق طموحاتها في التحول الطاقوي بسبب محدودية قدراتها المالية أو الهيكلية، ما قد يدفعها للعودة إلى الاعتماد على الوقود الأحفوري.
وخلاصة القول إن تراجع أسعار النفط في المرحلة الراهنة لا يُعد تراجعًا هيكليًا دائمًا، بل هو تراجع مخطط ضمن منطق المنافسة وإعادة التوازن إلى السوق. ومن الواقعي أن يتوقع المخططون مدة هبوط قد تصل إلى ثلاث سنوات، مع احتمال أن يلامس السعر مستوى خمسة وخمسين دولارًا للبرميل لفترات محدودة، وهو مستوى يضع ضغوطًا حقيقية على عدد كبير من المنتجين الهامشيين. وعند هذا السعر، لا يمكن الجزم بأن أي حكومة نفطية ستكون عاجزة عن دفع المرتبات في ظل الأوضاع الاقتصادية الحالية، إلا أن من المرجح أن تلجأ إلى تقليص النفقات الأخرى، لا سيما التشغيلية منها، وربما تأجيل بعض البنود التنموية، إلى أن تستعيد الدورة النفطية زخمها المعتاد.


